النهار

بدر بن عبد المحسن يتحدّث عن نفسه: هذه قصّة الثّماني مرضعات.. وسجال الطّلاليين ومحمد عبده
الرياض - جهاد أبو هاشم
المصدر: النهار العربي
غاب نور البدر في عتمة الليل.. هذا لسان حال متذوقي الشعر من محبي الأمير الشاعر بدر بن عبدالمحسن عقب رحيله بالأمس، والذي نعاه الديوان الملكي السعودي بعد حياة حافلة بالعطاء الشعري المسافر إلى قلوب العالم كله.
بدر بن عبد المحسن يتحدّث عن نفسه: هذه قصّة الثّماني مرضعات.. وسجال الطّلاليين ومحمد عبده
بدر بن عبدالمحسن
A+   A-
غاب نور البدر في عتمة الليل.. هذا لسان حال متذوقي الشعر من محبي الأمير الشاعر بدر بن عبد المحسن عقب رحيله أمس، والذي نعاه الديوان الملكي السعودي بعد حياة حافلة بالعطاء الشعري المسافر إلى قلوب العالم كله.
 
لم يكن "البدر" أو "مهندس الكلمة" – كما يطلق عليه محبوه – مُقِلاً في لقاءاته الإعلامية، بل معتدل الظهور يلبي عطش طالبيه، شعراً أو حديثاً عن ذاته، يكشف جوانب خفية عن حياته في كل مرة، إلى أن "ذبلت أنوار الشوارع، وانطفأ ضي الحروف".. على حد تعبيره الشعري، برحيله الحزين.
 
 
 
إن نسوني الناس.. زعلت
"أنا موجود في أشعاري".. بهذه الكلمات تحدث الأمير بدر عن نفسه، كان يردد دائماً حواراً شعرياً أجراه مع سيدة عجوز قال لها: "إن نسوني الناس.. زعلت، وإن ذكروني الناس زعلت، صمتي وحروفي مبعثرة"، ضحكت وقالت "لو عدلت.. سلمت قلب وحنجرة".

صاحب القلب الرقيق في لقاء سابق في برنامج "الليوان"، قال لمقدم البرنامج الإعلامي عبد الله المديفر إنه متفاجئ من محبة الناس المستمرة منذ خمسين عاماً، وفسّر ذلك معلقاً "أنا إنسان حظيظ، القبول من الله سبحانه وتعالى، وإذا قبلك الناس حتى أخطاؤك يتجاوزون عنها".

أما بداياته، فكشف عنها بمكاشفة حينما أكد أنه كان يكتب لنفسه. عُرف كشاعر أغان في بداياته، ثم نجحت أغنيته الثالثة "عطني المحبة" مع الراحل طلال مداح فجرفته إلى مجال الشعر الغنائي، ولو أن أربعاً إلى خمس أغان فشلت في حينها، لما ولد هذا الشاعر، كما أكد في حواره.
 

استمر البدر في هذه المرحلة نحو 10 سنوات، لم يكن هناك لقاءات إعلامية أو جلسات وأمسيات للشعر، وصفها بأنها "مرحلة كنت فيها جمهوري الوحيد"، لتليها مرحلة يكتب فيها لنفسه وجمهوره.
 
قال في أحد لقاءاته إن والده لم يكن معترضاً على كتابته للشعر، فالإنسان يكسر هذا الاعتراض حينما يكتب شيئاً جيداً، ولو كان ما يكتبه هزيلاً لكان صدمة كبرى له وتوقف.

"اسمحوا لي أن أعرف بنفسي، أنا مواطن من السعودية، هوايتي الرسم، وعملي كتابة الشعر، كتبت الشعر منذ 40 عاماً، منه الشعر المحكي، والمغنى، وسألقي قصائدي هذه الليلة باللغة العربية".
كان البدرُ يهوى الرسم، معتزاً بوطنه ولغته العربية، وجاءت كلماته العفوية في مقدمة كلمته التي ألقاها قبيل بدء أمسيته الشعرية في باريس قبل سنوات.
 
 
شاعر.. وثماني مرضعات
من كان يصدق أن هذا الشاعر الكبير قد تأخر في النطق والكلام في طفولته، كان عصبياً، سميناً، وفق تصريحه في برنامج "هذا أنا" مع الشاعر صالح الشادي، كاشفاً أن تلك العصبية باتت تحت السيطرة، وإن استمرت. 

ولد "بدر الشعر" في الثاني من أبريل (نيسان) 1949، وهو الابن الثاني للأمير عبد المحسن بن عبد العزيز آل سعود. والدته هي الأميرة وضحى الحمود الفيصل الحمود الرشيد الشمري، وكان له ثماني مرضعات، في وقت كانت السعوديات يعتمدن على المرضعات في حينه.

حينما توفي مؤسس المملكة، الملك عبد العزيز، كان الأمير بدر بن عبد المحسن يبلغ من العمر 4 سنوات، لكنه يحمل في ذاكرته بعضاً من تفاصيل تلك المرحلة، وكشف عنها ذات مرة في برنامج "من الصفر" مع الإعلامي مفيد النويصر.

فقد توفي الملك في الطائف، وكان الأمير بدر في الطائف أيضاً، ويتذكر تلك اللحظات جيداً، وقال عنها: "أحسست للمرة الأولى بأن هناك شيئاً ما خاطئاً، شعرت بحدوث شيء ما"، ليكتشف أن ما حدث هو حدث جلل.. وفاة جده الملك المؤسس.

درس البدر بين السعودية ومصر، إذ التحق بمدرسة الملكة فيكتوريا في الإسكندرية، كما درس في بريطانيا والولايات المتحدة، وتولى عام 1973 رئاسة الجمعية السعودية للثقافة والفنون، وعُيّن رئيساً لتنظيم الشعر في المملكة، وتم تكليفه بكتابة الأوبريتات الافتتاحية لمهرجان الجنادرية لعدد من السنوات، ولا يزال صداها عالقاً في ذاكرة السعوديين.
 
 

كان البدر يستشعر مصاب الجميع، لأنه الإنسان الذي يحب الجميع، ومن آخر ما كتبه دعواته للفلسطينيين في حرب غزة التي اندلعت في السابع من أكتوبر الماضي، إذ كتب على منصة (إكس): "اللهم إنّا نسألك أن تلطف بأهلنا وإخوتنا في فلسطين، اللهم ارفع عنهم البلاء، داو جرحاهم وارحم موتاهم، وآمنهم من خوف يا رب العالمين".
 
 
"إما أن تكون شاعراً عظيماً أو لا تكون"..
هذه نصيحة الشاعر البدر للشعراء، الذي يرى أن كتابة الشعر حقٌ لكل إنسان، لكنه ينصح بألا تصف نفسك بأنك شاعر وأنت لست عظيماً ولم تكتب قصيدة تستحق.

الغرور شيء جيد للشاعر كما يرى البدر، بل كان أحد أسباب استمراره هو تحويل الغرور لدافع، ووصف ذلك ذات مرة في حديث إعلامي "أنصح بالغرور، الغرور مهم، ولكن بشرط أن يكون غرور الشاعر غروراً مبتكرا باللي يريد يسويه مو باللي سواه، لما أسوي بيت شعر أو قصيدة متميزة أحس بغرور اللي جاي، أنه بإمكاني أسوي أحسن، الغرور هذا مثل البكتيريا الجيدة".

رداً على أن الشعر "مجرد حكي"، الأمير الشاعر الرومانسي أجاب في معرض رده على ذلك "يفرِق حكي عن حكي"، كان يرى أن أكثر إنسان يطرب للحزن هو الشاعر.
 
وبأسلوبه الحواري الهادئ والراقي يقول "لو أحسست بأني بدأت بالانحدار شعرياً سأقف". كان يزعجه بأن الجمهور أحياناً يفهم مقصد القصيدة بشكل آخر، وبعد أن فكّر ملياً في ذلك، تقبّل الأمر لاحقاً، فهناك مثل أو بيت يستشهد به "جزاه الله خيراً الذي أعلمني في شعري أكثر مما أعلم".

مهندس الكلمة كتب الشعر بالعامية لأنها المقربة والمحببة لديه، وقال في أمسية حوارية شهدها معرض الرياض الدولي للكتاب 2023 "اليوم المسؤولية أكبر؛ فكتابة نص أدبي قبل 30 عاماً قد لا يستغرق ليلة أو ليلتين، بينما يستغرق اليوم مراحل عدة".

وفي حوار آخر حول لغة الشعر شهده حساب سمو وزير الثقافة الأمير بدر بن عبدالله بن فرحان على "إنستغرام"، نفى تصريحاً نُسب إليه بأن شعر الحداثة "ميت"، فالشاعر له الحق في كتابة اللون الذي يفضله، مشيراً إلى أن بدايته كانت مع الشعر النبطي، ولم تكتمل تجربته مع شعر التفعيلة، كما لم يكتب الشعر الفصيح إلا عبر نص قصير في أوبريت "فارس التوحيد"، فيما يرى أن لذة القصيدة تأتي لحظة كتابتها والخروج بقصيدة جيدة، كما أن الشاعر يصاب بالإحباط عند الفشل في التعبير عن مشاعره.
 
ليس سهلاً إطرابه
"لم يعد من السهل إطرابي، لكنني إذا عدت إلى الأغاني القديمة لي أنبهر، وكأنني أكتشف نفسي وموهبتي مجدداً".. هكذا كان يرى البدر الطرب في سنواته الأخيرة.

لقد رافق شعر البدر السعوديين خلال أكثر من خمسة عقود، وساعد في انتشار قصائده تقديمها لفناني الخليج ليغنوها، مثل طلال مداح وعبد الرب إدريس ومحمد عبده وعبادي الجوهر وعبد المجيد عبد الله وخالد عبد الرحمن وعبد الله الرويشد وراشد الماجد، وحتى عربياً مثل كاظم الساهر وصابر الرباعي وآخرين.

وفي السياق الطربي ذاته، يكشف في لقاء شهير مع برنامج "روافد" قبل أعوام أنه يعتقد أن أكثر من لامس صوته في القصيدة هما اثنان؛ طلال مداح ومحمد عبده، ليستذكر جمهوره تصريحه في برنامج "إضاءات" مع السفير السابق والإعلامي تركي الدخيل، وكشف فيه أن أغنيتي "جمرة غضى" و"أرفض المسافة" اللتين غناهما الفنانان الاثنان لم تُمنحا للاثنين معاً، وأنهى ما حدث من لغط وسجال بين الطلاليين محبي طلال مداح ومحبي محمد عبده حول أحقية الأغنيتين لفنان دون الآخر بأنهما للفنان محمد عبده حصراً، كُتبتا له، لكن مداح غناها "مناكفة" في زميله الآخر.
 

صاحب أغنية "فوق هام السحب" الشهيرة أعاد تعريف الأغنية الوطنية، فهذه الأغنية هي أكثر الأغاني الوطنية السعودية محبة وعمقاً، والأجمل لحناً ومعنى، ولعل المستغرب أنها بقيت لعامين حبيسة الأدراج، واختار ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان منها عبارة "فوق هام السحب" ليكتبها بخط يده على القمر الاصطناعي السعودي قبيل صعوده إلى الفضاء.

حلمه بـ"نوبل" سعودية
لو لم يكن مختلفاً لما كان نتاجه مختلفاً، لذلك نجح في أن يكون من أبرز الشعراء في الجزيرة العربية، ولقي خلال مسيرته أكثر من تكريم مستحق، إذ نال الشاعر الأمير بدر بن عبد المحسن تكريماً رفيعاً من خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز بمنحه وشاح الملك عبد العزيز عام 2019، ووصف تلك اللحظة بقوله "تسوي القصائد تعبها".
 

وفي العام ذاته كرّمته منظمة "اليونسكو" تزامناً مع اليوم العالمي للشعر، لمساهماته الشعرية الفنية الثقافية المتفردة، وكرّمته أيضاً الهيئة العامة للترفيه في ليلة كان عنوانها "ليلة الأمير بدر بن عبد المحسن: نصف قرن والبدر مكتمل".

وقد نشرت هيئة الأدب والنشر والترجمة أعماله الكاملة عام 2022، وترجمتها للغتين الإنكليزية والفرنسية، تقديراً لمساهماته في الحراك الإبداعي السعودي خلال خمسة عقود، ونقلاً لتجربته الشعرية إلى العالم.

كان البدر يحلم بتقديم جائزة نوبل للآداب إلى السعودية، ليست أمنية شخصية، بل كان يتمنى أن يكون للمملكة مرشح لهذه الجائزة العالمية المرموقة.

أسس الراحل مؤسسة بدر بن عبد المحسن الحضارية كمؤسسة ثقافية غير ربحية، لتحمل على عاتقها مهمة تعزيز الثقافة الإسلامية والعربية عالمياً بمبادرات نوعية وإسهامات ثقافية، ترجمة لرؤى الراحل فقيد الشعر.
 


تنبأ برحيله
فقيد الأدب والشعر والوطن، والتواضع أيضاً، خلّف برحيله حزناً جارفاً، وقلة من يفعلون ذلك.

في بيان الديوان الملكي، فإن الأمير الشاعر توفي خارج المملكة، وسيصلى عليه اليوم الأحد بعد صلاة العصر في جامع الإمام تركي بن عبد الله في مدينة الرياض.

لكن اللافت أن الأمير بدر نعى نفسه وتنبأ برحيله قبل ذلك بأيام، إذ كتب قبل نحو 4 أيام آخر تغريداته على حسابه الرسمي عبر منصة (إكس)، حينما قال:
"الناس ما همَّها ظروفكْ.. كود الذي يحزن لغمّكْ.. وإن شلت حملك على كتوفكْ.. بتموت ما أحدٍ ترى يمّكْ".

في سنواته الأخيرة، أجرى الأمير الشاعر عملية جراحية مطولة دامت تسع ساعات، لاستئصال ورم دماغي عمره نحو 15 عاماً، وتجاوز تلك العقبة بنجاح.

رحل مهندس الكلمة عن دنيانا عن عمر يناهز 75 عاماً في العاصمة الفرنسية باريس، بعد صراع مع المرض.
 
 

اقرأ في النهار Premium