هل رحل برنارد بيفو كما تمنى في آخر كتاباته؟ هل فارقت روحه هذا العالم مسترخياً على أريكته وهو يسمع الكونشرتو 23 لموزار أو مقاطع لشوبار؟
لا ندري. لكنّ الأكيد أنه رحل بعد حياةٍ عاشها كما أحب أن تُعاش بين الكتب والأوراق.
صورته وهو يحمل كتاباً بيد ونظارتيه باليد الأخرى ستظلّ عالقة في ذاكرة كلّ من عرفه وتابعه. قد يصعب أن تختصر برنار بيفو بكلمة واحدة، هو الذي تعدّدت اهتماماته ومجالاته، وإن ظلّ الفكر محورها ومنطلقها.
بعد حياة مديدة تنقّل فيها من علوم اللغة إلى الإعلام فالأدب، رحل الإعلامي والكاتب الفرنسي الشهير برنار بيفو عن 89 عاماً (5 مايو/أيار 1935)، عاشها برفقة الكتاب مذيعاً وكاتباً وأديباً.
حين تقول البرامج الثقافية لا بدّ أن تستحضر اسمه، هو الذي أعدّ وقدّم أهم وأشهر البرامج الثقافية في العصر الذهبي للتلفزيون، فاخترقت شهرته حدود فرنسا ليصل إلى العالم الفرنكوفوني أجمع. ومن أشهر برامجه: "القراءة للجميع" و"فتح قوسين" و"أبوستروف" و"وجهاً لوجه"، إضافة إلى "الإملاء".
ويعود الفضل لبيفو في ردم الهوة بين الثقافة والعامّة، وفي أن أجيالاً كثيرة تربّت على حبّ القراءة من خلال برامجه التي استضافت قامات فكرية وأدبية بارزة واستعراض الإنتاجات الإبداعية المتميزة.
في وقت ما من حياته، تحوّلت شهرته التلفزيونية إلى ما يشبه السطوة الثقافية، فكان اسمه حاضراً في المحافل الثقافية الكبرى، كما ترأس لجان التحكيم في أهمّ الجوائز الأدبية مثل جائزة غونكور وغيرها.
كتب برنار بيفو أكثر من 20 كتاباً، وحاز جوائز عدة، منها جائزة النقد من الأكاديمية الفرنسية، وتُرجمت أعماله إلى لغات كثيرة ومنها اللغة العربية، ومن هذه الأعمال كتاب "مهنة القراءة" عن سلسلة "الكتابة عن الكتابة" (دار تكوين، ترجمة سعيد بوكرامي).
ومن آخر أعماله، كتاب نشره العام الماضي صبّ فيه زبدة حياته ووضعه تحت عنوان "وتستمرّ الحياة". وإذا ما تأملنا هذا العنوان فسنجده الخيار الأمثل لكي يختتم به بيفو رحلته الغنية بالتجارب والخبرات والإبداعات. فهو إن رحل جسدياً سيبقى مستمراً في الحياة عبر أعماله الورقية والتلفزيونية.
"...وتستمرّ الحياة" هو الكتاب الذي أنجزه بيفو بدفع من الدار الفرنسية العريقة "ألبان ميشيل"، والتي طالبته بعمل يختصر عُصارة حياته فكانت سيرته الأشبه بمديح الشيخوخة. سيرةٌ غير تقليدية، لا تشبه قصته التي كتبها في عام 2011 ضمن كتاب "كلمات حياتي" بل تُركّز على فترة معينة من حياته، والمتعارف على تسميتها "خريف العمر".
عند نشر الكتاب في فرنسا، كان موقع "النهار العربي" سبّاقاً بتقديم قراءة نقدية مطولة عنه، كتبها الروائي والناقد أحمد المديني. وهنا مناسبة للتوقف عند أبرز مقتطفاتها لكونها تختصر كثيراً من رؤى بيفو وتأملاته.
وفي الأخير وقبل ختام المسير، يطلعنا على الحالة التي يريد بها المغادرة النهائية إن لم تباغته، إن كان وحيداً مسترخياً على أريكته يسمع الكونسرتو 23 لموزار، لمقاطع لشوبرت، رحمانينوف، أو فالس السمفونية العجيبة لبرليوز؛ ويمحضنا بعد هذا سبع نصائح يقول على من بلغ مبلغ سنّه أن يستلهمها، وبالتأكيد فهو يواصل خوض غمار الحياة بعناد حاملاً مشعلها:
1ـ أن لا تشتكي أبداً.
2ـ أن تحتفظ بمزاج رائق.
3ـ أن تبقى دائم الفضول والتطلع.
4ـ أن تتجنب العزلة.
5ـ أن تستفيد من مزايا الشيخوخة، من قبيل التعاطف والاحترام والمواساة.
6ـ أن تحلم، لا تتوقف عن الحلم.
7ـ أضف شيئاً لحياتك، أيّ متعة، فالشيخوخة ليست مدعاة للعدم.