"من لا يُحبّ كاسندرا"،"جوربار غيت"، "الدفاتر القديمة"، "موسيقى الحجرات"، "قناع مسرحي"، وغيرها من اللوحات التي سكنت ذاكرة محبّي "الفصول الأربعة"، بكل شخوصه التي كُتبت بذائقة عالية وعفوية لتكون مشابهة بصورة ما مع يومياتنا، خلق منها المخرج الراحل حاتم "إيقونات" عاشت على مدار الـ 24 سنة أخيرة عصيةً على التلف أو النسيان.
أعلنت الكاتبة السورية ريم حنّا خلال ظهورها عبر برنامج "شو القصة" مع الإعلامية رابعة الزيّات، عن وجود نيّة لإعادة كتابة "جزء ثالث" من المسلسل الشهير "الفصول الأربعة"، استجابةً لرغبة الجمهور العارمة وإلحاح المنتجين. وأشارت حنّا التي كتبت الجزءين الأول والثاني بالمشاركة مع الكاتبة دلع الرحبي، إلى "صعوبة المهمّة" بسبب غياب عدد من نجوم المسلسل ممن غيّبهم الموت كخالد تاجا (كريم) ونبيلة النابلسي (نبيلة) وانطوانيت نجيب (نعيمة)، والمخرج حاتم علي، أو خرجوا من البلد بسبب مواقفهم السياسية كجمال سليمان (عادل المحامي) ويارا صبري (ناديا). لكنها بينت أنّها تسعى "لتقديم جزء ثالث يرقى إلى مستوى توقعات محبي المسلسل".
وعلّقت الفنانة ديما بياعة (سوسو) على انتشار خبر وجود "جزء ثالث" خلال مقطع فيديو شاركته عبر "تيك توك"، انّها لا تشعر بإمكانية التحضير لجزء ثالث من المسلسل؛ لا سيما بعد وفاة المخرج حاتم علي ورحيل عدد من نجوم المسلسل، واصفة إياهم بـ"عماد العمل"، وأنّ هناك عدداً من النجوم ممن استقروا في أماكن أخرى.
وأضافت ديما، أنّ ريم حنّا ودلع الرحبي، كتبتا المسلسل بنكهة جميلة ومختلفة، مشدّدة على ضرورة اجتماع الثنائي لكتابة جزء ثالث، وفي حال عدم تواجدهما معاً فلا داعي للأمر برمته، وبقاء الجزءين السابقين خالدين في أذهان الجمهور، متسائلةً بتعبير لا يخلو من الطرافة :"كيف نطبخ طبخة ونصف مكونات الأكلة غير موجودة؟".
"نوستالجيا دائمة"
على مدار أكثر من عقدين من الزمن شكّل العمل ملاذاً للهروب من الواقع، والغوص في -بساطة وعفوية - العلاقات الاجتماعية الأسرية التي تجمع بين شخصيات المسلسل على تناقضاتها المختلفة. "بيت العيلة" الذي يجتمع فيه الجميع كل أسبوع، صراع الطبقات بين عائلة "نجيب فهمي" و"الجوربار"، الحب والحسد والغيرة المُبطنة، حكايات المدينة الدافئة المسالمة التي تغيّر وجهها للأبد، الرموز الفنية والثقافية التي تُشكّل عصب الذائقة المجتمعية في تلك الفترة، الموسيقى التصويرية التي غدت خاصية العمل الخالد، منسجمة مع طبائع كل شخصية لتكون "فصولاً أربعة".
لقد حملت كل منها صورة حيّة تشبهنا جميعاً، ارتبطت باليومي المعيش، وبالأحلام غير المتحققة صيغت بقالب كوميدي يبتعد عن الاستعراض والتهريج، والذي يجمع بين الخفة والهمّ الثقافي في آن.
تعلّق الجمهور بالشخصيات أكثر مما تعلّقوا بالقصة، كما حدث مع أعمال عالمية كـ "Friends"، وبصورة العائلة المتخيلة من باب الحنين الذي شحنته الحرب السورية المستمرة منذ 14 عاماً، وفقدان الحميمية التي كسرتها مشاهد الموت اليومي والخراب المادي والمعنوي الذي أصاب سوريا كبلد وشعب، وضروب التهجير والتشرّد في أطار ما يُسمّى اليوم بـ"الشتات السوري".
فالجميع يريد أن يكون -ولو تخيلاً- فرداً من تلك الأسرة، وأن يعود إلى تلك الحقبة الهادئة في آخر التسعينات وبدايات الألفية الجديدة. حنيناً يعدّه البعض "زائفاً" لـ "دراما العائلة"، في ضوء ما يُعرض اليوم خلال كل موسم رمضاني من مشاهد العنف والدم والتوحش التي تحاكي الغرائز وتحاول "ركوب الترند" في زمن سباق المشاهدات الذي لا يصنع الذاكرة بقدر ما يخلق أبطالاً من ورق.
"لعبة التوقّع المُرّة"
كثرت عبر منصات التواصل الاجتماعي "لعبة التوقع" حول مصير تلك الشخصيات المُحببة الافتراضية بعد الحرب، فيما تمّ إنتاج جزء آخر منه، حتى أنّ بعض نجوم العمل شاركوا بهذه اللعبة، أبرزهم جمال سليمان في مقابلة أجراها معه الإعلامي نورس يكن في بودكاست "خلينا نكسبك" في عام 2022، والتي توقّع فيها جمال سليمان (عادل) بقاء بسام كوسا (نجيب) وأندريه سكاف (برهوم) في البلد المتأزم، ورحيل سليم صبري (مالك الجوربار) وعائلته نحو أسواق بيروت أو دبي للعمل والاستثمار.
ريم حنّا، في وقت سابق من عام 2021، وفي حوار مع منصة "كيو ميديا" نفت إمكانية إنتاج "جزء ثالث"، وواصلت خلال الحلقة "لعبة التكنهات" حول مصير الشخصيات في 2021، من سيبقى منها في البلد، من سيغادر؟ وغيرها من السيناريوهات الافتراضية، بما ينسجم مع خصوصيتها التي غدت جزءاً أصيلاً من المتخيل الجمعي السوري والذاكرة السورية.
وكجزء أيضاً من حالة "النوستالجيا"، قامت منصة "كلوز شوت" في مايو/أيار 2020 بالتعاون مع شركة "غالاتيا" بتصوير فيلم قصير في منزل العائلة في حي المهاجرين، تحدث خلاله ميلاد يوسف (رامي) عن أسباب تعلّق الجمهور بالمسلسل، كونه يعاين حقبة زمنية تمثل "أوج تألق الدراما"، وأنّ جيل اليوم الذي يتابع العمل يجد نفسه أمام مشاكل مختلفة بعيدة تماماً عن مشاكلهم، لذلك يبدو "الفصول الأربعة" "رومنسياً" قياساً بما يعيشونه اليوم.
"لعنة الأجزاء"
يعدّ "الفصول الأربعة"- إلى جانب أعمال أخرى مثل "عيلة خمس نجوم" و"يوميات مدير عام" و"يوميات جميل وهناء" و"دنيا"، جزءاً من حقبة ذهبية درامياً، تمّ إفسادها من خلال الاستثمار بنجاحها السابق وجماهيريتها منقطعة النظير- كدافع اقتصادي بحت- لحساب إنتاج أجزاء ثانية كانت أقل بريقاً ومشاهدة وعرضةً للمقارنة الدائمة و"الظالمة" بين الأصل والنسخة الجديدة.
ولهذا بدت باهتةً، رغم اجتماع معظم نجومها الأصليين، وتقديمها في أطار يحاكي واقعها الجديد المكتسب من فكرتها السابقة، وظروف انتاجها الملائمة وتقنيات التصوير المتطورة قياساً بأجزائها الأولى، إلّا أنّها لم تستطع ان تُقارب نجاحها الأول بأي شكلٍ من الأشكال، ولتصبح "النسخة" دائماً عرضة للنسيان سريعاً.
ولأنّ "الفصول الأربعة" نجا -حتى اللحظة- من مستنقع التكرار، فقد حافظ على صورته الحميمية في نظر الجمهور الشغوف، كونه لا يزال مُخلصاً لإرث المخرج الراحل حاتم علي الفني الذي رحل عن عالمنا في أواخر عام 2020.
لقد شهدت مواقع التواصل الاجتماعي جدلاً بين مؤيد ومعارض لفكرة إنتاج جزء ثالث، بين من أثنى على الفكرة باعتبارها استعادة جميلة لحقبة مميزة في حياة متابعي العمل، والشوق لمعرفة مصير شخصياته، وبين من اعتقد أنّها فكرة غير موفقة قد تُفسد "جماليات" العمل الذي تميّز بعناصره الفنية والأدائية، وذلك بسبب غياب عدد من نجومه وعلى رأسهم مخرجه العبقري، فهم بالنسبة إلى عشاق المسلسل قطع أصيلة لا يُمكن استبدالها أو التخلّي عنها، خلقت مشهدية لا يُمكن إعادة صناعتها اليوم.
كثيرون اعتبروا أنّ إنتاج "جزء ثالث"- حتى وإن كتبته ريم حنا كاتبة العمل الأصلية- هي فكرة مستغربة كنوعٍ من العبث بالذاكرة.