يسعى علي قطب في كتابه "الغناء والطرب في أدب نجيب محفوظ: معجم ودراسة نقدية" (مجموعة بيت الحكمة للصناعات الثقافية)، إلى رصد دور الغناء في أعمال الفائز بجائزة نوبل في الآداب عام 1988، ويضع في حسبانه توظيف الشعر في تلك الأعمال.
يتناول الكتاب مجموعة من المحاور التي تعالج ظاهرة الغناء عند نجيب محفوظ بوصفها قضية يناقشها الخطابُ السردي، مثلما يناقش كثيراً من القضايا الحضارية.
تحدد تلك المحاور دور الغناء في بنية النص الدرامي وإدارة تصاعده وقراءة النص من خلال تردد الصوت الغنائي أو الشعري. وتحلل أثر الغناء في أسلوب نجيب محفوظ وتوظيف المبدع لمفردات لغة الموسيقى في تكوينات مجازية دالة إلى رؤيته لكيمياء التواصل في علاقات الذات بنفسها وبغيرها، والوجود.
في المحور الأول، ثمة معالجة موضوعية لما خصَّصه محفوظ من مساحات في إبداعه للحديث عن الفن الغنائي وتطوره وطرائقه.
ينطلق هذا المحور من فرضية ترى أن محفوظ يتعامل مع السرد كما لو كان مجالاً لمناقشة فلسفة الفن. وهنا يقترب محفوظ من أفلاطون في محاوراته. ويرى قطب أن مَن يقرأ أعمال محفوظ لا يمكن أن يغفل عن انتمائه إلى الفلسفة بحكم دراسته الجامعية العميقة؛ بخاصة أن الجامعة المصرية وقتها كانت في أوج توهجها واتصالها بحركة الفكر العالمي.
معادل روحي
في المحور الثاني يتأمل قطب الغناء داخل البنية الدرامية للعمل الأدبي، معتبراً أن الأغنية في هذه الحالة، هي مفتاح إدارة الحركة السردية؛ بما أنها صوتٌ يتردَّد على موجة الصراع الدرامي الداخلي في مونولوغات الشخصيات، والخارجي في علاقات هذه الشخصيات؛ سواء كانت توجهاً نحو التواصل، أم مؤشراً للصراع.
ويصل استخدام الأغنية عند محفوظ، وفق دراسة قطب النقدية، لتكون المعادل الروحي لمسار الشخصية، بالإضافة إلى دلالة الأغاني والموسيقى والأشعار على التكوين الثقافي للشخصيات ومحيطها الاجتماعي وموقفها من الحياة. ولاحظ قطب أن للشعر أهمية في خطاب محفوظ القصصي والروائي؛ "سواء أكان استخدامه لمحاكاة نص سردي له قيمة خاصة في التراث الأدبي، أم لاستحضار تجربة تاريخية قارئة لتجربة عصرية، أم للإشارة إلى تشكيل الذات الباحثة عن اليقين لصيغة يتجلى فيها سعيُها الروحي نحو الحقائق المُضْمرة في التجربة البشرية من الجذور إلى مستحدثات العصر المحفوظي".
ويقول قطب في مقدمة الكتاب إن "مَن يدخل بيت نجيب محفوظ سيستمع إلى صوت القاهرة، فالأغنيات والأنغام والأشعار لونٌ واضح في نسيج السرد عند الأديب الحافظ لتاريخ تكوينه، ولأنه يمتلك من الوعي ما يوفر له أن يصل خطوط حياته ببوصلة مدينته العريقة. ومن هنا فإن قراءة سرد محفوظ تفتح صفحة لتسجيل تاريخ الفن في مصر، حين كان سؤال الهوية محورياً في مواكبة لحركة الاستقلال أيام ثورة 1919 وصوتها المصري المعبر عن إيقاع حياتها، وهو بالطبع سيد درويش، وامتداد مسار التطور الفني في مصر مع ظهور عبد الوهاب وأم كلثوم، مع تنويعات تتابع الذائقة الشعبية في احتفالاتها وأوقات سرورها، وتنتبه لروح الطفولة وصخبها المتبلور في أناشيد الألعاب ببراءتها وشقاوتها".
غنائية الأسلوب
يتخذ المحور الثالث طابع النظر اللغوي عند محفوظ والأغاني في هذا المجال صورة لغنائية الأسلوب المحفوظي نفسه في تعامله الشعري مع لغة السرد.
وهذا التعامل - كما يقول قطب - لم يخفُت مع تطور النظرية السردية عند صاحب "أحلام فترة النقاهة"، بل ظلَّ يتصاعد ليصل إلى أعلى درجاته في الكتابات الأخيرة، وكأن النفس في اقترابها الأخير من خط النهاية، تتصاعد روحُها لتسكن كل متحرك وساكن عند محفوظ ملتمساً من الغنائية أسلوباً يدل إلى الروح الشرقية لهذا المبدع العالمي.
ولكي يُنجز قطب دراسته النقدية تلك، يقول قطب إنه كان عليه أن يقرأ أعمال محفوظ الروائية والقصصية، وأن يستنير بمقالاته الفكرية، بخاصة التي تنحو إلى الفلسفة حين أعلن عن نفسه كاتباً مجدداً، كما فعل "كمال عبد الجواد" في الثلاثية، حين رأى أن المُعلِم "هو صوت الإنسانية وضميرها".
وإلى المحاور الثلاثة المشار إليها آنفاً، وضع قطب معجماً للأغاني ولأبيات الشِعر الواردة في قصص محفوظ ورواياته؛ "ليكون دليلاً يستأنس به قارئ محفوظ، ومحفزاً لمزيدٍ من الدراسات لأعماله" (ص 18).
القسم الأول من الكتاب عنوانه "الأغاني ومحاور الموضوع السردي"، وفي خلاصته - بعد درْس روايات عدة، منها "العائش في الحقيقة" و"رحلة ابن فطومة" و"الشحاذ" - أن نجيب محفوظ تعامل مع ظاهرة الأغاني عبر أكثر من محور موضوعي، فهي علامات تربط الفن بالواقع وتتجسَّد فيها الرؤية المجتمعية وتعايش الناس في حياتهم.
وهي – كذلك - مساحة لمناقشة الفن وقضاياه وعلاقته بالزمن، وهي موقف جيلٍ من القديم، وهي كذلك مساحة حوارية صالحة لمناقشة الصراع الحضاري، وهي صوت الطبيعة المحيط بالبشرية، وهي الأنشودة التي تتوجه بها الذات في تعبيرها عن تواصلها مع العالم.
مقاومة الظلام
وجاء القسم الثاني تحت عنوان "الصوت الغنائي والشبكة الدرامية"، ومن ضمن ما تطرَّق إليه رواية "قلب الليل"، وفيها كما يقول قطب: "يعبر الإنشاد الليلي عن نوع من مقاومة الظلام، وهو أيضاً مساحة تعادل سطوع الضوء النهاري... تجتمع الرابطةُ الروحية التي يتلقاها الحفيد، الذي يمثل كل صغير قادم على الطريق، من الجد الذي يمثل روح البشرية المصاحبة لرحلتها الممتدة من البداية إلى الأفق البعيد الذي تحاول البصائر استشرافه، مستعينة بخبرة تلك الروح التي يمثلها الجِد الرمزي".
وفي أحد نصوص "أحلام فترة النقاهة" يظهر الملحن والمغني زكريا أحمد بعوده وصوته، فيما ينضم سيد درويش، في نص آخر من العمل نفسه، إلى الحرافيش. ويكثر توظيف الأغاني في "أصداء السيرة الذاتية"، مع كثافة التعبير الذي يصل إلى حد الحكمة. فيقول نجيب محفوظ على لسان شخصية الحكيم الرمزي الذي أطلق عليه اسماً يناسب السعي البشري لليقين عبر التاريخ: "قال عبد ربه التائه: الغناء حوار القلوب العاشقة".
وهكذا أصبحت الغنائية في أعمال محفوظ الأخيرة – كما يقول قطب – موضوعاً وتقنية وأسلوباً تعبيرياً ناطقاً بالشعر داخل السرد. ويذهب قطب في أحد فصول القسم الثاني إلى أنه يمكن اتخاذ الشعر عند نجيب محفوظ مفتاحاً لقراءة النص، مشيراً إلى أن مَن يقرأ رواية "القاهرة الجديدة"، سيلاحظ حضور صوت المتنبي مع "محجوب عبد الدايم" في سياق علاقته بـ"الإخشيدي"، ذلك المدير الذي يتودّد إليه ليلحقه بعمل ينتشله من فقره المدقع، لكنه يسوقه إلى الرذيلة ويبقيه على حاله المزرية. وتلك العلاقة، تستدعي - وفق تحليل قطب - مدح المتنبي للإخشيدي حاكم مصر في زمنه، تملقاً، وطمعاً في مالٍ أو منصب، قبل أن يهجوه بعدما خرج من قصره خالي الوفاض، وهو ما يعتبره قطب "تناص إحالة".
صوت متفرّد
القسم الثالث عنوانه "أسلوبية الغناء والطرب"، ولاحظ قطب أن حضور الأغنيات والمصطلحات المتعلقة بالموسيقى والغناء والطرب وكل ما يتشابه معها، مثل الأناشيد والشعر، هو سمة تميز أسلوب نجيب محفوظ، إذ تشكل هذه البنى مع الوصف والسرد، السبيكة الإبداعية لصوته المتفرد.
ويرى قطب أن هذه الأوعية الفنية لا تأتي في صورة تطريزية للأسلوب؛ إنما تأتي موظّفة لاستكمال النص وبث الروح عبر تلك الأصوات المنسابة في فضاءات النص، فلا يملك القارئ إلا الولوج داخل الجوقة أو التخت أو الفرقة الموسيقية أو الأوركسترا؛ ليكون واحداً من أفرادها مردداً معها هذه الأنغام الصادحة في فضاءات التكيّة والحديقة والحارة والبيت والعوّامة والمسرح.
ويخلص قطب إلى أن تجربة نجيب محفوظ في هذا السياق "تعد تجربة ثرية، شاهدة على عصور من الغناء، مثلما كانت شاهدة على عصور من الفن والثقافة والسياسة والاقتصاد. وهو صاغَ كل هذه الأفكار في رؤى فلسفية وإنسانية جعلت من أعماله أيقونات عابرة للزمن" (ص 114).
واشتمل المعجم على أربعة أقسام، الأغاني، الأشعار، الأناشيد المستلهمة من أدب مصر القديمة، وغزليات حافظ الشيرازي في "حكايات حارتنا" و"الحرافيش". ويقول قطب إنه ربما كانت رحلة قراءة نجيب محفوظ هي المتعة الحقيقية التي مرَّت بها هذه القراءة؛ تماماً كما كانت متعة بطل محفوظ الذي مضى يبحث عن شخصية إخناتون في رواية "العائش في الحقيقة"، فعاد ليخبر أباه بنتائج رحلته لكنه أخفى عنه حبه للفن والجمال؛ الفن في ترنيمة إخناتون، والجمال في سحر نفرتيتي. ويضيف: "ما لم يقله البطل في الرواية لأبيه، قاله نجيب محفوظ في كل أعماله، تاركاً للقراء متعة الرحلة في اكتشاف الهوية السردية والروحية لذاك الصوت الذي يمكن أن نقول عنه إنه إخناتون السرد المصري، وأن ما كتبه في أعماله الإبداعية يوازي ما أنشده إخناتون من أناشيد تتردد في وجدان الإنسانية، وتبحث لها عن منشدين في تاريخ حارتنا الكبيرة مهما التوت سبلها وضاقت مدقَّاتها؛ ففي صوت مبدعيها تنطلق مشاعرها ليجد فيها الباحثون عن الحقيقة قبساً من جمال الروح والعقل والسرد المشحون بموسيقى الحياة".