تعرفُها من ضربة فرشاتها التي تنزل كالصاعقة على بيادر اللون المشغول من هواجس وحطام ظنون وإيماءات أشكالٍ توقظ لديك قراءات شتى وتأويلات لا تنتهي في علاقتك بالعالم، إنها رائدة الفن التجريدي الفنانة إيفيت أشقر من الجيل المؤسس للحداثة التشكيلية في لبنان، التي رحلت بسلام عن عمر يناهز (96 عاماً)، بعد أعوام طوال من العزلة، تاركة وراءها تاريخاً حافلاً بالعطاء، كرسامة وأستاذة جامعية ألهمت أجيالاً من الفنانين الشباب. إنها صورة السيدة الضئيلة القامة والقوية البنية، المتملّكة من أسلوبها وإبداعاتها، القادرة على أخذ نواصي الكلام والخواطر والأفكار إلى خلاصاتها الحكيمة، إلى طريقتها في الإصغاء إلى اللون كما إلى حاجات النفس، لا تفارقها سيجارتها التي اقترنت بحضور شخصيتها في ذاكرة العين والبال.
هي التي نبذت مبدأ التشخيص وأسست قواعد التجريد اللاموضوعي على خلوّ اللوحة من أي محاكاة للواقع أو الارتباط المباشر بالمرئيات، والاعتماد على المكوّنات الأساسية للفن الكامنة في الخط واللون والحركة ومقوّمات الشكل في الفضاء أي في المطلق، فكانت متفردة بأسلوبها الفني، وطريقتها في القبض على عناصر التأليف بذهن متوقد نابع من موسيقى الداخل والتأمل في الوجود والحدس وليس من بداهة اليد والسرعة والارتجال. فكانت في ذلك أقرب إلى مفاهيم التجريد في مدرسة باريس Ecole de Paris منها إلى مدرسة نيويورك.
"الوحي والبراءة صفتان تُنسبان إلى الفنان عادة. لكننني أفتقر إلى الاثنتين، لكني في لحظة الرسم أخوض رحلة استكشاف شاقة ومضنية تحتّم عليّ التيقظ الكليّ، حيث ترتسم أمامي احتمالات عدة تتصارع وتتصادم وتستدعي استجماع كل حواسي وأفكاري لاتخاذ القرار النهائي. لذا أتساءل: هل اختياري للطريق الذي أسلكه خلال الرسم يعتبر شكلاً من أشكال الوحي والبراءة؟ ربما". بهذه العبارة قدمت الفنانة لمناسبة معرضها الذي أقامته في غاليري جانين ربيز عام 2004، الذي استضافته ندين بكداش التي واظبت على إقامة معارض لها بانتظام منذ أواخر التسعينات، ما ساهم في إضفاء صفات متنوعة جديدة حملتها إطلالات الفنانة في كل معرض جديد وفي كل إنتاج يستقطب إليه أقلام النقاد والشعراء من أمثال صلاح ستيتيه الذي قدّم لمعرض إيفيت أشقر عام 1989 بالقول:"فنّها مثاليّ وأقول إنها نادرة، لأن إيفيت أشقر لا ترسم كثيراً ولكنها ترسم طويلاً وببطء. كما ينبغي للفنان الذي يهدف من خلال عمله الوصول إلى شيء من قصة رمزية تشكيلية خيالية. تتمهل بتكوين رسومها وتفسح لنفسها الوقت الكافي لاكتشاف الأنغام ولخلق الهدوء الأزليّ، وكأن اللعب بمواد الرسم عملية لا نهاية لها".
من التّكعيبية إلى التّجريد
في سيرتها الذاتية ثمة ما هو معلن وما هو خفيّ، وهي الآتية من أرض الهجرة والسفر البعيد، كونها من مواليد ساو باولو (البرازيل عام 1928)، إلى مقر الإقامة الدائمة في بيروت عاصمة الإبداع والتألق الفني، حيث درست الفن في الأكاديمية اللبنانية (ALBA ) وتعرفت على المدارس الفنية العالمية برفقة جيل من المبدعين الكبار الذين أسسوا دعائم الحداثة ومفاهيمها المرتبطة بمدارس الغرب. في أحد الحوارات التي أجريتُها مع الفنانة عن بداياتها، أسهبت في الحديث عن ذوقية فرناندو مانيتي، وعن تشدّد قيصر الجميّل في استبعاد اللون الأسود من "الباليت" كونه غير موجود في قائمة التلوين الانطباعي. وكانت إيفيت تلك التلميذة المتمردة في عصيانها الذي كان يدفعها دوماً نحو الاكتشاف، ما جعلها تُلبِس الأسود سمات هوية نابعة من شخصيتها الفنية وحريتها وخياراتها في التعبير اللوني، وهو اللون الذي لازمها طوال حياتها.
ظلت متمسكة بالرسم بالألوان الزيتية، معتبرة أن اللون حضور وعلاقتها معه كالعلاقة بين كائنين. تقول إنها تدخل الأبيض كمن يغطس في الفراغ المضيء أي رحم الداخل، وإن الأسود صمتٌ يحوي المطلق. إن خلف الأسود عالماً يتفتح ويتفجر فيه شعر كثيف".
في الخمسينات ظهرت في أعمالها المبكرة تيمات المرأة بأسلوب ينحو صوب التعبير اللوني، وبعد مزاولتها الرسم في الطبيعة (مناظر حقلية وقوارب راسية على المرفأ وطبيعة صامتة) بالأسلوب التكعيبيّ وبالسكين، كأداة حادة تعلّم القوة كما الجرأة، أخذت أعمالها منذ مطلع الستينات تتبوأ مكانها في صالات العرض في بيروت (غاليري عام 1960) ويوغسلافيا وروما، وأخذ أسلوبها يميل نحو تصفية الأشكال المقروءة، في تطور اتجه نحو تقطيع المسطحات مع ترك الصور الخارجية والمرئية بغية رسم أكثر فيزيائية في مراعاة الحركة واللون بعيداً عن الموضوع. كانت التكعيبية سبيلاً إلى تفكيك صورة الواقع إلى أشكال، أي مسطحات لونية متكسرة سرعان ما أفضى ذلك إلى التجريد اللوني الصافي، حيث رسا أسلوبها على قواعد جمالية بَنتها الفنانة بثقافتها وانحيازها العاطفي والفكري إلى مبادئ كاندنسكي في الربط بين التجريد والموسيقى وعالم اللون وأنغامه المقروءة بالبصر، بعيداً من المفاهيم العقلانية للتجريد الهندسي.
من بين التجريديين الكبار كانت تميل إيفيت أشقر إلى نيقولا دو ستايل وهارتونغ وغوتز ودوبريه وسولاج. ولطالما وصفت عملها بأنه انعكاس لموسيقى الداخل، واللوحة لها هي فضاء مهيب بقدر ما هو حرّ، والحرية ليست مكتسبة بل هي شكل من أشكال عراكها وتفاعلاتها الحسية المدركة والباطنة وهي تفصح عن نفسها وعن طبيعتها ومزاجها وإنسانيتها.
الفنّ طريقة حياة
إيفيت أشقر بعصب قوي متوتر وعزم لا يعرف التردد، استطاعت أن تغير المشهد الفني في معارض بيروت، التي كانت تعتمد على تقاليد قراءة الواقع في اللوحة سبيلاً إلى فهم العمل الفني، ما جعل لوحتها التجريدية تحمل سمات الغموض وأسرار الانخطاف اللوني الذي كان مطلباً لديها. لذا يشعر المتابع لنتاج إيفيت أشقر، أنه إزاء فنانة قوية متينة تتجدد بالعمق من دون أن تتغير في الجوهر. ومهما راوح أسلوبها بين نمطية وثوابت، فكل لوحة لها كانت تتمتع بحضورها الطاغي واستقلاليتها وكيانها الداخلي المرتعش بالمعاناة والصدامات والأحاسيس. حضور منزّه عن شوائب التكرار للتجارب السابقة مهما تشابهت.
كان الفن الذي نذرت له عمرها بمثابة طريقة حياة، تعيشها ضمن طقوس مغلقة في محترفها حيث تكرّس وقتاً للفن وقراءة الكتب، ومن حين لآخر تجد وقتاً لمداعبة قططها.
بحسب روايتها لي أنها "تستيقظ في ساعات الفجر الأولى تجلس في محترفها الصغير تتأمل وتفكر وتحلم. يبدأ عملها من التحديق في بياض المساحة الفارغة للوحة ثم ترتجل شكلاً ما أو حركة أو يتوثب لون من فرشاتها العريضة، لا يلبث أن يستدعي لوناً آخر، حتى يغدو الفراغ المسكون بالخطر، فضاءً لتأويلات الحركة ومقاماتها اللونية ومفاصلها. لا مجال للارتجال الفوريّ في تعبيراتها الخطية واللونية إذا خلا من دلالاته العميقة، بل التأنّي والبطء والتراكم. تتحكم بصوغ مشهدها التجريدي مهما ظهر للعيان بأنه عفويّ حر".
إيفيت أشقر البسيطة المتقشفة في اختزالاتها المشغوفة بفنها إلى درجة العشق، الصادقة حتى المثالية، المتحررة من كل التيمات ومن كل الخارج إلى مرتبة التمرد، كانت تصغي إلى دواخلها ونبضها وأحاسيسها وتتجرأ في مغامراتها مع الشكل وكيمياء اللون سعياً إلى دهشة الاكتشاف والاكتفاء والرضا. فقد عاشت وحيدة مع فنها الذي رافقها وآنسها ورافقته بتؤدة، تحاور لوحتها وتسترسل في تأملها وتبذل فيها من ذاتها وقلقها وتوترها، تترك نفسها للوحة كي تأخذها إلى بحيراتها الزرق أو غيومها الرمادية، إلى ذراها أو قيعانها باحثة في عمق ذاكرتها عن الأشياء الضائعة.
في أعمالها ينبغي أن نلتفت إلى مغزى العلاقة بين زوايا اللوحة ووسطها، بين الكثافة اللونية ونقيضها في الشفافية، وبين المناطق المشغولة باللمسات المتعاقبة والمساحات المتروكة على جلد اللوحة العاري إلا من طبقة الأساس الأولية، كذلك بين الأشكال الصلبة التي تتحطم كالنصال والأخرى الرخوة السائلة، بين الحركة النازلة أو تلك التي تضرب في الخاصرة، وبين الهدوء الساكن على مضض. إنها الأشياء التي تنطق بها لوحات إيفيت أشقر وهي السحر بعينه ذو الحلة الشعرية الغامضة.
رحيل إيفيت أشقر ليس أفولاً بل بداية رحلتها في ذاكرة الأجيال الجديدة.