إحدى عشرة قصة تمثل المتن الحكائي للمجموعة القصصية "لارا" للكاتب المصري أشرف الصباغ، والصادرة حديثاً عن دار روافد في القاهرة.
تبدأ المجموعة بقصة "اللكمة" وتنتهي بقصة "لارا" ؛ وما بينهما ثمة قصص تتواتر من قبيل "الذي فعله بائع الحمص مع المدعو دويستوفيسكي"، و"توابيت الدهشة" ، و"يوم ممطر"، و"َجرافيتي"، و"الطيور"، و"انتظار"، وغيرها.
تصدير دالّ
ثمة تصدير يبدأ به القاص مجموعته، يبدو موزعاً على منحيين: الأول إهداء دالّ إلى" آدم وإيزيس"، وليس مثلاً آدم وحواء، حيث الجدل بين الإنساني والهوياتي المتجذر في متن الحضارة المصرية القديمة، ومعانفة الميثولوجيا بأطيافها، ومغادرة الفكرة الوعظية التي لا تناسب فكرة الكتابة ذاتها، حيث الأسئلة المفتوحة والتاملات اللانهائية: "لا أستطيع وعظ العالم. يمكنني فقط أن أهمس لكما: لننجوَ بأنفسنا، نحتمي بجدران بيتنا. نطل من وراء نوافذها على الخاسرين، منتصرين كانوا أو مهزومين".
ويلحق الكاتب إهداءه بتصدير يعاين سردية الحرب، ويسائلها، يبدأ بتقرير دال "لا رابحين في الحروب"، حيث يضعنا الكاتب هكذا بين أجواء مجموعته.
تتخذ المجموعة عنوان قصتها الأخيرة "لارا"، وبما يحويه الاسم من خفة، وهو اختيار جمالي ذكي في هذا المسار، وإن لم يعبر عن مجموع أجوائها المركبة.
تبدو لارا في القصة الأخيرة مركز السرد؛ عنها يدور كل شيء، فهي صديقة العمال ورجال الأعمال ورفيقة الطلبة والمبعوثين، ومحظية الرفاق والشباب والعواجيز، مانحة البهجة للجميع، لارا الواقعية التي تتبخر مثل حلم طيفي في نهاية فنية بامتياز، مثل تفلت كل شيء... الزمن، والمسافة والأيام.
بنية السرد
وفي القصة الأولى "اللكمة" تصبح هذه اللكمة مفجرة الحدث القصصي، لكمة مباغتة من موتور لراكب في الطائرة، يحكي الراكب عن عالم مركب، متعدد الوجوه، ويستهل الكاتب قصته بمرويته عن البحر، وبما يحيلك إلى إحدى قصص الكاتب ذاته من قبل "أول الأرض وأول البحر" ، في مجموعته القصصية السابقة "حبيبتي طبيبة العيون السريالية".
هنا في "اللكمة" نرى البحر المالح الذي دشنت الصورة الجاهزة عنه أنه بلا حدود، هكذا ينطق الجميع. وتصبح القصة مبنية شأن القصص الأخرى على ما أسميه بنية المساءلة، حيث وضع الأشياء جميعها موضع المراجعة النقدية المستمرة: "بدأت المسألة عندما أكدوا لنا أن البحر المالح، هذا الذي يزين بلادنا ونسبح فيه يومياً، ليس له آخر، لا أحد يعرف بالضبط من الذي قال ذلك. لكنه كان يتردد يومياً على ألسنة إخوتنا الكبار وعلى ألسنة أمهاتنا وآبائنا، وفي دروس وحكم ومواعظ معلمينا في الفصول الأولية. لا أحد يعرف من أقحم في رؤوسهم هذه الفكرة حتى تمكنت منهم، وأصبحت من طبائع الأمور، وحقائق الكون، وأسس الجغرافيا والتاريخ والمعرفة وأبجدياتها. وصاروا يحكونها للآخرين، الصغار، كنتيجة وتحصيل حاصل" (ص 6).
مواجهة
ثمة راكب في مواجهة الجميع من ركاب طائرة معظم أفرادها ممن يتلقون التدريبات القتالية في الاتحاد السوفياتي سابقاً، وجميعهم يتهمونه بالخيانة، يعرّضون به، ويزايدون مزايدات فارغة عن الدور المصري الذي لا يمكن نكرانه في ما يتعلق بالقضية الفلسطينية.
وهو الدور الفاعل والأهم في مدونة الصراع العربي الإسرائيلي، لكن هل لهذا ثمة صلة بالإهداء الي إيزيس المصرية الخالدة؟
ثمة نزوع ساخر يلوح في القصة الثانية "الذي فعله بائع الحمص مع المدعو دويستويفسكي"، حيث نجد "أبو فرحان السوري" بائع الحمص والشاورما والملابس الداخلية وكل شيء.
المراسل والصحافي الذي اقتحم عالم الكتابة الأدبية بجرأة الجهال، وبثقة مفرطة، وقد صنع مجموعته القصصية الأولى التي حازت انتباهاً بالإكراه لم تفلح معه الرواية التي كتبها، وانتهت الحال بها لتصبح محض أوراق في تواليت المؤسسة الإعلامية التي يعمل فيها.
تبدو السخرية هنا مبنية على الدلالة الكلية للقصة، تتخلل بعض مقاطعها، لكنها تظل في بنائها العام محملة بالمرارة، وكاشفة عن عمق المأساة.
ويتواتر حضور (أبو فرحان السوري) في أكثر من قصة داخل المجموعة، ويتخذ حضوره صيغاً أسلوبية ودلالية مختلفة، فنراه تارة أبو فرحان السوري (أباً عن جد)، وتارة أخرى بائع الحمص، وتارة ثالثة أبو فرحان الإعلامي والكاتب، وهكذا...
في "أربات مع قليل من الفودكا والكائنات الروسية"، ثمة مسرحة لشارع "أربات" في وسط موسكو، إنه يمثل بؤرة الحكي، ومركز الانطلاق السردي، من خلاله لا نتعرف على حكايته فحسب، بل حكايات أخرى تخصه، وتخص غيره.
وهنا أيضاً تلوح لارا أخرى، قادمة من رواية دكتور جيفاجو لباسترناك، وبما يعزز من تجليات لارا، وتنويعاتها في مجموعة تحمل الاسم ذاته.
في هذه القصة أيضاً يقف الكاتب على أعتاب الموازنة بين عالمي غوغول ودستويفسكي، وقد أسهب القاص في معاينة التفاصيل الدقيقة والصغيرة، لا بشأن مركزه السردي (شارع أربات)، ولكن بشأن هوامش عديدة أسهمت في ترهل البناء السردي للقصة، فضلاً عن النزعة المقالية في مواضع أخرى منها.
ظلال الواقع
في "توابيت الدهشة" ثمة ظلال لعالم واقعي، تنطلق القصة من الانتخابات الرئاسية الروسية، وتحيلك على الفتاتين الروسيتين "تاتو" الثنائي الموسيقي الشهير، والرجل صاحب إمبراطورية صناعة التوابيت جيرمان ستيريلجوف، عالم هزلي في ثياب واقعية، حملات انتخابية تتخذ من التابوت أيقونة، سردية ناضحة بسخرية تتوارى خلف جدية الحكي، ورصده واقعاً عصياً على الفهم.
تكنيكات أخرى
هل تعرف جون ريد... هي الجملة المركزية في قصة "يوم ممطر". التي توظف تكنيك الرحلة القلقة، حيث يخرج السارد البطل لإجراء عدد من الفحوصات الطبية، وتبدو علاقته بابنه حميمة، ومركبة في الآن نفسه، وأثناء التجوال يقطع عليه رجل أنهكه الزمن تفكيره، بالعبارة المحورية في النص (هل تعرف جون ريد)، والتي تعد مفتاحاً للفهم الإنساني بينهما، وعبرها تتخلق حالة من الونسة العابرة في يوم ممطر.
تعتمد قصة "جرافيتي" على التقسيم المقطعي، والجامع بين مكوناتها السردية يبدو ماثلاً في عبثية العالم، الذي يمنع الجرافيتي لأنه يسبب التلوث البصري، حيث المنع بحجة جمالية في مفارقة درامية لعب الكاتب على تجلياتها في المجتمع الروسي الذي يعاينه عبر رؤية من الداخل؛ لذا فقد اتسمت بحرارة التجربة الشعورية، وحدّتها.
تلعب التوصيفات للشخوص دوراً بارزاً في تقديم الحدث القصصي، ويقدم الصباغ شخوصه عبر تداخل قوى بناء الشخصية الثلاث: الجسدية والنفسية والاجتماعية، والوعي بحركتها داخل القصة، وتفاعلاتها مع العالم، والآخر، والأشياء، ويبرز هذا على سبيل المثال في مفتتح قصة "فرشود"، حين يستهل الكاتب نصه بتقديم شخصيته المركزية على هذا النحو: "ليس هناك أكثر من فرشود الطاجيكي للتدليل على هشاشة هذا العالم وخفة ظله وميوعته، لدرجة أنه يكاد يشبه في سيولته مياه البطيخ أو مياه اللفت المخلل،.." (ص 132).
تعد الجسارة ملمحاً بارزاً في قصص المجموعة، خاصة في مساءلة الواقع الروسي، والعربي، على حد سواء، وارتحالات المجموعة في فضاءات جغرافية متعددة منحها زخماً غير معتاد، ليس على مستوى أمكنة السرد، ولكن على مستوى شخوصه المتعددين (محمد المصري / عابد اللبناني/فرحان السوري/ إيفان الروسي/ كاظم العراقي/ فرشود الطاجيكي/ الكائنات الروسية/ لارا الأوكرانية /..) في موزاييك خاص للأمة الروسية.
تبدو "لارا" تنويعة جديدة على متن مشروع سردي للكاتب أشرف الصباغ، يعاين فيها عوالم مختلفة، بجسارة لافتة؛ ورغبة عارمة في البوح والمكاشفة.