النهار

30 عاماً على ميلاد "البيست سيلر" العربي
شريف صالح
المصدر: القاهرة- النهار العربي
نشر نجيب محفوظ روايات وبيعت مجموعات محمود درويش الشعرية من المحيط إلى الخليج… لكننا لم نسمع عن مصطلح "البيست سيلر" Best Seller ولم يكن معتمداً بطريقة الفرانكو- العربي. الحروف حروفنا لكن المعنى مستعار وغريب. ​
30 عاماً على ميلاد "البيست سيلر" العربي
أحلام مستغانمي
A+   A-

  

نشر نجيب محفوظ روايات وبيعت مجموعات محمود درويش الشعرية من المحيط إلى الخليج… لكننا لم نسمع عن مصطلح "البيست سيلر" Best Seller ولم يكن معتمداً بطريقة الفرانكو- العربي. الحروف حروفنا لكن المعنى مستعار وغريب.

 

كان المستشرق السويدي تيتز روكي من أوائل من رصد الظاهرة عربياً، حين كتب بحثه عن انبعاث الرواية العربية الأكثر مبيعًا عام 2008 ونشره في 2011، معتبرًا أول رواية عربية تدخل تحت وصف "الأكثر مبيعًا" هي "ذاكرة الجسد" لأحلام مستغانمي، الصادرة عام 1993. أي أنّ تلك الظاهرة مرّ عليها ثلاثون عامًا.

 

بينما عرفها الغرب ـ بحسب الأكاديمي شريف حتيتة ـ منذ عام 1895 مع مجلة "بوك مان"، التي كانت أول من أطلق قائمة بالأكثر مبيعًا، بأسبقية 100 عام. وقد تلا روكي آخرون نظروا للظاهرة عربيًا، مثل روجر آلن وجابر عصفور.

 

ويبدو المصطلح في حدّ ذاته ملتبسًا، فقد يدلّ إلى الأكثر شعبية وانتشارًا، أو على الأكثر رواجًا من منظور تجاري. وخصّص له حتيتة كتابه "الرواية العربية الرائجة" (دار إشراقة)، حين انتبه إلى أنّ طلابه يقرأون "روايات" بعيدة من توقعاته، وهنا اكتشف نموذجًا بديلًا لم يحظ بالدرس والفحص، فاشتغل عليه واستعمل مصطلح "الرواية الرائجة" بمعنى "الأكثر مبيعًا".

 
 
 

بأثر رجعي

ألا تدخل معلقة امرئ القيس تحت وصف "الأكثر مبيعًا"؟ ألم يقرأها ملايين العرب؟ ألم تكن دواوين نزار قباني رائجة على امتداد العالم العربي في طبعات قانونية أو مزورة؟ ألم يؤد منع "أولاد حارتنا" إلى تزويرها خارج مصر في عشرات الطبعات؟ ولا ننسى أدب الأرصفة بزعامة خليل حنا تادرس وكتبه التي تمزج بين الإروسية والجريمة. مع ذلك لم تكن الثقافة العربية قد عرفت تلك الظاهرة على نحو دقيق. لأنّها ارتبطت بآليات تسويق معينة، وتطور تقنيات الطباعة، وتكنولوجيا التواصل الاجتماعي، وكسر "المعيارية" الرسمية للكتابة، وتقلّبات ما بعد الربيع العربي، وقوة الألتراس.

 
 

 

طريقة غامضة للقوائم

وضعت "دار الشروق" قوائم الأكثر مبيعًا فتصدّرتها "شيكاغو" 2007 لعلاء الأسواني، و"عزازيل" 2009 ليوسف زيدان، بينما موقع "النيل والفرات" تصدّرت قائمته "بنات الرياض" 2005 لرجاء الصانع، ومكتبة "ديوان" تصدّرت قائمتها "تاكسي" 2007 لخالد الخميسي، و"ربع غرام" 2008 لإسلام يوسف، وثمة روايات أخرى كان لها حضور هائل مثل "برهان العسل" 2007  لسلوى النعيمي، و"ساق البامبو" 2012 لسعود السنعوسي، و"هيبتا" 2014 لمحمد صادق، توازيًا مع ظواهر نبيل فاروق وأحمد خالد توفيق ثم أحمد مراد. وكذلك رواج أدب الرعب منذ عام 2013  والروايات ذات العناوين والأغلفة التي لا تخلو من إيحاءات مثل: "شهوة"، و"فياجرا الوجع".

 

الملاحظ أنّ الغرب لديه تقاليد تتسمّ بقدر من الشفافية في طرح القوائم وأرقام المبيعات والأرباح، فسهل أن تلقى معلومة محدّدة بأنّ موراكامي باع في يومين 100 ألف نسخة من روايته، وأنّ حجم الطبعة كان 600 ألف. بينما يعاني العالم العربي من غياب الإحصاءات التي تقوم بها جهات محايدة لرصد الرواج التجاري (الربح المادي) والرواج الشعبي (انتشار الكتاب بين القراء).

 

 وربما يطالع القراء على غلاف الرواية أرقامًا مثل "الطبعة الرابعة والأربعين" لكن لا أحد يعلم هل كل طبعة تصل حقًا إلى 1000 نسخة؟ يُقال إنّ بعض الدور تحتال فتطبع 200 نسخة تسمّيها "طبعة أولى"، وإذا نفدت تكرّر ذلك، لنصل إلى رقم خادع يتعلّق بعدد الطبعات، برغم أنّ المطبوع فعليًا قد لا يتجاوز 2000 نسخة.

 

حتى هذه اللحظة يندر أن يحدّد الناشر كم نسخة يطبعها، وحتى حين يضع رف الأكثر مبيعًا فهو ببساطة يروّج بضاعته ولا يخبرنا حجم المبيعات. فربما باع 50 نسخة فقط هي بالنسبة له "الأكثر مبيعًا"! وهذا ما يسمّيه حتيتة "الممارسات التضليلية" لعدم وجود مصدر محايد لتدقيق الأرقام، وغياب المعيارية في تصنيف المعلومات.

 

ويلخّص سامح فايز في كتابه "البيست سيلر" الطريقة المجربة في قوائم الأكثر مبيعًا، حيث تعتمد على ثلاثة عناصر: تلاعب دور النشر أو على الأقل عدم الشفافية في طرح البيانات، وجود "ألتراس" للناشر أو الكاتب في "السوشيال ميديا" مثل الـ"فيسبوك" والـ"غود ريدز"، انتشار الطبعات المزورة التي تعتمد على رواج حقيقي، ثم تضاعفه. ولا شك أنّ طريقة القوائم تسلّع الإبداع على طريقة المشتريات في أسواق البقالة.

 
 
 

تجربة أحمد مراد

يعدّ أحمد مراد (مواليد 1978) أشهر نماذج "البيست سيلر، واللافت برغم رواجه تجاريًا، أنّه نال أيضًا الاحتفاء الرسمي حين نال جائزة الدولة للتفوق، إضافة إلى ترشحه لجائزة "البوكر" منافسًا لكتّاب من العيار الثقيل.

 

وتميّزت تجربته التي تناهز 20 عامًا في استمرار النجاح، وكونه يعيد كتابة رواياته في صيغة أفلام سينمائية آخرها "كيرة والجن" 2022 عن رواية "1919". ويعبّر نتاجه الروائي عن كل أدبيات "البيست سيلر"، لأنّه يكتب وفق تخطيط مسبق وتوليفة محدّدة.

كما أصبح منظّرًا لما يمكن تسميته "معادلة الكتابة الناجحة" سواءً عبر لقاءاته أو الورش التي يقدّمها، وبالفعل نشر كتابه "القتل للمبتدئين" يلخّص فيه أسلوبه في كتابة الروايات والأفلام، ويعطي دليلًا استرشاديًا للكتاب.

 

من مصادر تكوين مراد "نادي الفيديو" القريب من بيته حيث تعرّف على الأفلام الأجنبية، والأفكار التي كان يطرحها مصطفى محمود في برنامجه "العلم والإيمان"، وكانت محفزة للخيال العلمي، وولعه بكتب السحر والشعوذة، إضافة إلى تحريض أمه له على القراءة، فبدأ بمجلة "ميكي ماوس" و"المغامرون الخمسة"، و"ملف المستقبل" لنبيل فاروق، وكتاب "أرواح وأشباح" لأنيس منصور.

 

بهذا التكوين كان مراد نفسه تلميذًا للرائج، وللتخييل الشعبي، و"أدب الجيب"، فهو لم يدخل إلى الأدب من باب كتاب عظام مثل دوستويفسكي، ولم يتأثر في صباه بكتب فلسفية لسقراط أو نيتشه. وإنما اندمج في لعب خيالي مستوحى من أدب خفيف ـ كقارئ ـ ثم أعاد إنتاجه كاتبًا وفق شروط السوق. وبرغم كل ما يُقال عن مبيعات كتبه يندر أن نعثر على إحصاءات دقيقة عن حجمها طيلة هذه السنوات.

 
 

 

جماليات النص الرائج

بغض النظر عن تجربة مراد وأحمد خالد توفيق وغيرهما، فإنّ الرواج لا يعني بالضرورة القيمة، لذلك فرّق جابر عصفور بين كتب رائجة لكنها تحمل "قيمة فنية" وأخرى بلا قيمة تذكر. أي قد لا تلتقي معايير الفن ومتطلبات السوق. هذا الفصل بين "القيمة" و"الرواج" يستحضره سامح فايز من واقع زيارته إلى معرض القاهرة للكتاب عام 2015 حيث احتشد آلاف لحفل توقيع زاب ثروت مؤلف كتب "7 أيام" و"حبيبتي"، بينما لم يهتم أحد من هؤلاء المراهقين بحضور تأبين العالم التربوي العظيم حامد عمار! هنا التسويق هزم القيمة والتاريخ معًا!

 

لذلك يفسّر بعضهم الرواج بأنّه مرتبط بالموضة واندفاع المعجبين للقاء مؤدي المهرجانات و"اليوتيوبرز" و"التيك توكرز" والتقاط الصور معهم، ويصبح شراء كتبهم ضمن طقس النجومية ولا يعني بالضرورة قراءة حرف واحد!

وقد يكون سبب الرواج ـ بحسب روجر آلن ـ تقديم البوح الفضائحي وتعرية المجتمعات في الشرق الأوسط ليتهافت عليها الناشرون في الغرب، وتحت هذا التصور يُدرج آلن "بنات الرياض" أي الرواج لأسباب "غير فنية".

 

فما الذي يتضمنه النص الرائج حقًا ويساهم في انتشاره؟ أول الأسباب ارتباطه بشريحة الشباب والمراهقين، وأحيانًا تسهم جوائز مثل "البوكر" في الرواج. واستفادة من طرح شريف حتيتة تتلخّص جماليات الرائج في طبيعة اللغة المستعملة، والتي قد تُعلي من اللهجة المحكية وكسر "التابو اللغوي"، أو الاستغراق في المجاز والشعرية، كما في حالة أحلام مستغانمي، والحشو والمبالغة في حجم الكتاب، والميل إلى السرد على حساب الوصف، والمبالغة في الأحداث المليئة بالمصادفات، والغرائبية، والإثارة والجريمة، والعوالم المحظورة والمتخيلة، وتلبية رغبات القارئ والاستجابة لتوقعاته، واللعب السطحي على قضايا فكرية رائجة، والتبسيط  المخل في البناء والحبكة ورسم الشخصيات.

 

كما ينتبه حتيتة لإيقاع الرواج، فثمة أعمال حافظت على صعودها ببطء وعبر فترات زمنية ممتدة، مثل "الحرافيش" لنجيب محفوظ، بينما ثمة أعمال انتشرت انتشارًا سريعًا ومكثفًا، وبعدما تصدّرت اختفت.

 
أحمد خالد توفيق
 
 

تعميم نموذج

تتسق مجمل تجارب "البيست سيلر" مع تطور التكنولوجيا وقوة وسائل التواصل الاجتماعي وآليات التسويق، وتراجع النظرة المعيارية للأدب، وتغير شرائح القرّاء لمصلحة الشباب والمراهقين.

ولكن يكمن المأزق في "النمذجة"، فلن نعدم في "الغود ريدز" من يعطي تلك الأعمال الخفيفة خمس نجوم، ويمنح ماركيز نجمة واحدة! بالتالي يحدث حجب لروايات عظيمة مثل "الجريمة والعقاب" وتنتقل معيارية الأدب إلى نصوص متوسطة القيمة في أفضل الأحوال.

 

فثمة توجيه مضمر يقف وراء كل ظواهر النجومية في "السوشيل ميديا" يُعلي من التسلية على حساب القيمة، والربح بدلًا من الفن، وتجنّب المعاني العميقة انشغالًا بعدّاد المشاهدات.

 

وبرغم صحة كلام غوستاف لوبون عن "عصر الحشود" فإننا انتقلنا من الحشد حول أنبياء وقادة وعباقرة إلى "ألتراس" المشاهير الأعلى رواجًا حتى، وإن لم يملكوا موهبة لافتة... فالمهم قدرتهم على جمع "الفولوورز" و"اللايكات"، فالجماهير تخدم "النجم". والنجم نفسه في خدمة منظومة التفاهة والاستهلاك.

 

ليست فكرة "الجماهير" هنا دالّة على الديموقراطية، ولا انتقاصًا من السلطة كما تصور لوبون، وليست ما يسمّيه حتيتة "سلطوية المتلقّي"، لأنّ الجماهير نفسها مبرمجة ولا تتاح لها خيارات حقيقية، مُصابة بعماء ضوء "الأكثر رواجًا"، وتقبل ما يُفرض عليها "استهلاكه" في لعبة عرض وطلب مقرّرة سلفًا.

 

في كتابه "من داخل السرب" يتحدث الفيلسوف الكوري بيونغ شول هان عن "التحليق في عوالم الصورة"، حيث لم تعد مجرد مماثل لموضوع واقعي لكنها "نموذج نهرب إليه" لنكون "أفضل حالًا وأكثر جمالًا وحيوية"..

 

يمكننا أن نطبّق ذلك الكلام على المشاهير الأكثر رواجًا في الكتابة والموضة وكرة القدم. فهم أيقونات ونماذج وصور. بضاعة برّاقة مصممة على الوهم لتبدو "أفضل من واقع معيب". وهذا ما يخلق ارتباطًا عاطفيًا معهم لخدمة عملية التسليع التي تجعل رواج بعضهم قد يمتد لبضع سنوات أو يُختزل إلى بضع دقائق، مثلما توقّع واندي وارهول في ستينات القرن الماضي حين قال: "سيكون بمقدور أي شخص في المستقبل أن يحظى بـ 15 دقيقة من الشهرة".

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الأكثر قراءة

سياسة 11/23/2024 7:37:00 AM
أعلن برنامج "مكافآت من أجل العدالة" عن مكافأة تصل إلى 7 ملايين دولار أميركي مقابل الإدلاء بمعلومات عن طلال حمية المعروف أيضاً باسم عصمت ميزاراني
سياسة 11/23/2024 9:48:00 AM
إسرائيل هاجمت فجر اليوم في بيروت مبنى كان يتواجد فيه رئيس قسم العمليات في "حزب الله"، محمد حيدر

اقرأ في النهار Premium