رحلةٌ عبر الزمن، تنقلنا إلى غزة خلال أربعينات القرن الماضي وما بعدها، لنستكشف وجهاً آخر لمدينة أمست ركاماً بسبب الحرب، وذلك عبر معرض فوتوغرافي أقيم في المعهد الفرنسي في القاهرة، بعنوان "مصور غزة كيغام: فتح الصندوق"، حيث يمكن استكشاف خيوط تاريخ غزة المرئي كما التقتطها عدسة الأرمني كيغام دجيغاليان (1915-1981) خلال أربعة عقود.
خلال تلك الفترة، وثّق كيغام تاريخ غزة عبر التصوير السياسي والاجتماعي والرسمي والوثائقي للحياة فيها، خلال فترات حاسمة، وبينها الانتداب البريطاني ثم الحكم المصري ثم الاحتلال الإسرائيلي عامي 1956، و1967.
كيغام هو أول وأهم مصور فوتوغرافي في غزة، وصاحب أول استديو فيها، انتقل إليها من سوريا، واستقرّ فيها، حيث أسس استديو "فوتو كيغام" 1944، ورفض مغادرتها حتى وافته المنية فيها 1981.
كيغام الحفيد
تنسيق المعرض للبروفيسور كيغام أفيديس كيغام دجيغاليان (الحفيد)، وهو أكاديمي ومدير فني، ورث جينات الفن عن جدّه، وتربّى على قصص تروي أنّ جدّه هو أهم مصور في غزة، فشكّلت حكايات الطفولة شغف الشاب، ودعمت حبه لدراسة الفن، فنال بكالوريوس الفنون البصرية من الجامعة الأميركية في القاهرة 2006، وحصل على الدراسات العليا والماجستير في الفنون من لندن ثم باريس، ويعمل الآن في التدريس الأكاديمي بين جامعات في القاهرة وباريس.
قدّم "كيغام الحفيد" مقاربة قائمة على مفاهيم التشظّي والتاريخ المتقطع والأرشيف غير المكتمل، إذ يعتبر عنصراً جوهرياً لمحاولة الكشف عن غزة: الأرض والناس والذاكرة والتواريخ الذاتية التي كانت، مدعماً ذلك بدراساته التي توغلت في التاريخ والثقافة البصرية، و"تاريخ الذاكرة".
جولة في أقسام المعرض
بحفاوة بالغة، اصطحب الطبيب أفيديس نجل كيغام دجيغاليان (الجد) "النهار العربي"، في جولة بين أروقة المعرض، شارحاً هذه الصور بحماس جارف وذاكرة متقدة. فقد عايش كثيراً منها في غزة التي غادرها إلى القاهرة شاباً لاستكمال دراسته؛ فتكشف لنا الصور شكل الحياة فيها. فالمدينة المحاصرة تحت نير الإبادة والاحتلال الآن، امتلكت وجهاً حضارياً آخر معبق بالتاريخ، واحتضنت كثيراً من الجنسيات، فما نراه في العقل الواعي عن غزة هو الدمار والقتل والحرب، لكن فجأة يضعنا المعرض أمام صور مختلفة عن المدينة الساحلية التي تضجّ بالحياة.
بدأ الأمر عبر صناديق ثلاثة باللون الأحمر، عثر عليها أفيديس عام 2018، واحتوت نيغاتيف ووثائق وبعض ألبومات صور العائلة ومراسلات شخصية ومهنية لكيغام الجدّ، فقام "الحفيد" بفحصها، وأوقف حياته المهنية من أجل إعداد وإحياء هذا الأرشيف الصغير.
لا تحتوي الصور هوية أو أسماء أشخاصها، أو حتى وقتها بدقّة، وقُسّمت المواد المعروضة إلى أربع، وهي "الاستوديو" الذي يضمّ بعضًا من أوراقه وأدواته وكاميراته، والثاني "ذاكرة غزة"، والقسمان يتناولان تفاعل كيغام الاجتماعي والسياسي مع أهل غزة، وأظهر حميمية علاقته بهم.
القسم الثالث هو "ألبوم العائلة"، ويمثل قراءة للواقع الاجتماعي والجغرافي لغزة في منتصف القرن العشرين، والرابع هو "مكالمة زووم"، تُعرض عبر شاشة تتلاحق خلالها صور مهمّة ضمّت شخصيات سياسية مؤثرة وأحداثُا مفصلية، وانتقلت هذه الصور لكيغام الحفيد عبر مكالمة زوم مع «مروان ترزي» من غزة في وقت سابق، وترزي ملقّب بـ (حارس أرشيف غزة البصري)، وهو من امتلك أرشيف كيغام، لكنه سقط شهيداً وبعض أفراد أسرته خلال قصف إسرائيلي على كنيسة "بورفيريوس للروم الأرثوذكس" في تشرين الأول/أكتوبر 2023، وهو ما يكشف أيضًا استحالة الوصول إلى أرشيف كيغام الموجود في غزة، وهذا مظهر آخر لتاريخ متقطع، فهذه الصور الرقمية المعروضة عبر شاشة أصبحت هي الأثر الوحيد المتبقّي لمعظم أرشيف كيغام، الذي دمّره الاحتلال خلال الحرب الأخيرة.
صاحبت المعرض في الخلفية تسجيلات صوتية خفيضة أشبه بالوشوشة، لأربعة أشخاص من غزة جمعتهم ذكريات مع كيغام، يقصّون حكايات حوله، ويشرحون مكانته في غزة، ومنهم ناصر عليوة وبيلا عياد، ومن المؤسف أنّ اثنين منهما قد استشهدا خلال الحرب الأخيرة وهما مروان ترزي، وضي أبو ميدان.
أرمينيا وفلسطين... تاريخ مشترك من الإبادة والشتات
ثمة نقطة محورية تتعلق بكون المصور كيغام يتحدر من أصول أرمينية، وهو الشعب الذي تعرّض لمذابح على يد العثمانيين، فكيغام رضيع ناجِ من مذابح إبادة الأرمن عام 1915، بعدما هربت به والدته إلى سوريا، إثر ذبح أبيه وأشقائه الذكور، حيث كان العثمانيون يقتلون كل الذكور حتى الرضّع، وثمة حكايات تقول إنّ والدته ثقبت أذنه ليظن الجنود أنّه فتاة لإنقاذه.
فثمة مشتركات تجمع الشعبين الأرميني والفلسطيني، فكلاهما تعرّض للاحتلال والإبادة والشتات، ويجمعهما تاريخ متشابه من الآلام والمعاناة تتوارثها الأجيال. ولعلّ اهتمام الجدّ والحفيد بتاريخ فلسطين وغزة يتعلق بأسباب في اللاوعي، إذ تلازمهما الرغبة في حفظ ذاكرة الوطن سواءً أرمينيا (الوطن الأم) أو فلسطين.
لذا، تعدّ سياسة الهوية والذاكرة عاملاً مهمّاً لكيغام الحفيد، واستخدم هذا المبدأ في أرشفة إرث جدّه. يقول "كيغام الحفيد" لـ"النهار العربي": "أرى أنّ تاريخنا هو "تاريخ متقطّع"، لا توجد استمرارية فيه، إذ يقطع الاحتلال والمذابح استمرارية الاتصال بالوطن بسبب التهجير والنزوح، لكن تظل فكرة التمسك بالوطن قائمة".
أهمية المعرض
أقيم المعرض عام 2021 للمرّة الأولى، وتتعاظم أهمية تنظيمه في 2024؛ لتزامنه مع الإبادة الجارية للبشر والحجر وطمس الهوية والذاكرة الذي تشهده غزة، فالتطهير العرقي ليس فقط ذبح الإنسان، لكنه محو أي أثر للثقافة والتاريخ، ولكن"كيغام الحفيد"، يؤكّد تمسّكه بالتاريخ المتقطع والذاكرة بكل أنواعها في مواجهة الاحتلال والإبادة، قائلًا : "نحن كمواطنين لدينا ضمير، وننحاز للإنسانية، ما يمكننا التمسك به هو ذاكرتنا "ذاكرة غزة وفلسطين"، فهي طريق للكفاح والنضال أيضاً".
أبو بشارة المصور الفدائي
لم يكن «كيغام» مجرد مصور فوتوغرافي بل سُمّي "المصور الفدائي" نظراً إلى وطنيته وولائه الشديد لفلسطين، إذ حرص على توثيق كل ما عاصره، ومنها الاجتياح الإسرائيلي لغزة سواءً العام 1956، أو 1967، إذ كان يضع بطانية أو غطاء فيه فتحة صغيرة ويقوم بتصوير ورصد القوات الإسرائيلية، كما تواصل مع المصورين الأرمن في كل فلسطين المحتلة، وجمع منهم "نيغاتيف" يرصد تحرّكات الجيش الإسرائيلي، ومن ثم يرسلها إلى السلطات المصرية عبر التهريب، هذا رغم كونه ليس مصورًا صحافيًا، لكنه استشعر أنّ ذلك واجبه الوطني، وسلاحه هو الكاميرا.
كما ارتبط "كيغام" بغزة واعتبرها جزءاً من كيانه لا يمكنه الانفصال عنه، حتى أنّ أهلها أطلقوا عليه "أبو بشارة" لأنّ معنى اسم ابنه أفيديس بالعربية هو "البشارة"، كما تمتع بمكانة إنسانية رفيعة واعتبروه واحداً منهم، فكان أشبه بـ"مختار غزة"، وهو يماثل عمدة أو كبير منطقة، من دون أن يتقلّد منصباً سياسياً.
فلم يعتبروه "خواجة"؛ لذلك أدخلوه بيوتهم وأرسلوا بناتهم ليلتقطوا الصور التذكارية في الاستديو الخاص به. يعلّق "كيغام الحفيد" بقوله: "دائماً ما أقول إنّ غزة تبنّته وتبنّاها، فرغم كونها مدينة عتيقة لكنها ليست مدينة سهلة في تقبّل الغرباء مثل القدس أو بيت لحم أو يافا التي يتردّد عليها الأجانب لزيارة الأماكن المقدّسة، ومع ذلك اعتبرته غزة أحد أبنائها".
وكشف "كيغام" أنّه يخطّط لإقامة هذا المعرض في دول أخرى، وبينها البرتغال وهولندا وباريس، منوهًا أنّ ثمة جزءاً ثانياً من هذا المشروع بدأ العمل عليه، وهو جمع مزيد من إرث جدّه، موجّهًا نداءه عبر "النهار العربي": "أطلب من أي إنسان غزاوي في الشتات، أو حتى من النازحين الذين يمتلكون أي صورة صورها كيغام، إرسالها عبر الهاتف إذا اتيح لهم ذلك، مع إرسال رسالة صوتية حول ذكرياتهم أو ذكريات عائلتهم ومناسبة الصورة".
ويُعتبر نداء الحفيد دعوة إلى مشاركة جماعية في تأريخ غير نمطي لغزة في وجه الفناء، وهذا التأريخ البديل، يهدف إلى كشف حقيقة الأرض والشعب والتاريخ الشخصي الذي كان ودمّره الاحتلال.