ما الذي يفضّله "الجمهور" ووسائل التواصل الاجتماعيّ والتلفزيونات وغالبيّة المؤسّسات الإعلاميّة والكثرة الكاثرة من الصحافيّين، هل السجّادة الحمراء واستعراضات الموضة وعدسات المصوّرين واللقطات السكوب وقصص العلاقات الغراميّة وقضايا الطلاق والانفصال بين الممثّلات والممثّلين، أم السينما باعتبارها فنًّا رؤيويًّا؟!
على هامش إسدال الستار على مهرجان كانّ السينمائي في دورته السابعة والسبعين، يحضر أمامي ما أقرأه في الصحف والمجلّات (الفرنسيّة) المتخصّصة، ولزميلنا الفذّ هوفيك حبشيان، ولقلائل من أمثاله في العالم العربيّ، فأشعر بأنّ ثمّة من "ينتقم" لي شخصيًّا (أدبيًّا ومعنويًّا)، وبأنّ النقد لا يزال بخير، باعتباره مقاربةً للفنّ، وثقافةً، واجتهادًا موهوبًا، وهجسًا خلّاقًا، ورؤيّةً محنّكةً للسينما. وأشعر أيضًا بأنّ هذا "الانتقام" هو انتقام المعنى من اللّامعنى، والجوهريّ من التافه السخيف، بل هو انتقام الحياة العقليّة والروحيّة لنفسها، إذ تدافع عن ذاتها بمواهبها، وإذ ترفض التشيّؤ الذي يأخذ بها إلى قعر التسطيح والانحطاط والحيونة.
ما أقوله عن النقد السينمائيّ الجدّيّ الرصين، على ما فيه من اختلافاتٍ في الرأي وأذواق واجتهادات متضاربة ومتنوّعة يجب أنْ تظلّ موضع نقاشٍ وجدال (لا موضع تسليم)، أقوله، من بابٍ أولى، عن أفلام السينما التي "تنتقم" بجدّيّتها للسينما، ممّا يكاد يستولي على هذا الفنّ، ويمثّل الغالبية العظمى من الإنتاج السينمائيّ، ويتلاءم مع مقولة ما تطلبه مؤسّسات المافيا السينمائيّة وما يطلبه الجمهور المستغرق في فقاعات الاسترخاء العقليّ.
من شأن السينما – السينما (ونقد السينما) أنْ تحول دون موتي، ودون موت الحياة. تمامًا مثلما تنقذني الكتابة الشعريّة، والموسيقى، والفنون الأخرى، وتجعلني لا أفقد الأمل، بل أتشبّث به، وأنشب روحي فيه، لئلّا يفلت منّي، وأفلت من "براثنه".
في خضمّ التغوّل الذي يفتك بالمصير البشريّ، وينهش روحه، ويسفك دمه، وخصوصًا الآن، وفي كلّ مكان، يولد فيلمٌ سينمائيّ مضادّ للموت، وتولد قصيدة، وتتكهرب نظرة شغف بنظرةٍ مماثلة، فأزداد غرامًا بعبقريّة الآداب والفنون التي تتحدّى الإبادات "المنظّمة"، وتخبّئ المعنى واللغة والأسلوب في حبر الكلمات، فيتدفّق نبع الحياة، ويسيل في الأنهر والشرايين، كما لو أنّ الكون يعود يولد فائقًا ومقمرًا وجميلًا، كما لم يكن يومًا.
أنظر من جهة إلى أكوام الموتى الذين مُنعوا قسرًا، ويُمنَعون كلّ يوم، من عيش الحياة. وأنظر من جهةٍ مقابلة إلى السينما. إلى الحياة بالسينما. وفيها.
مثلما أنظر إلى الشعر. إلى الحياة بالشعر. وفيه.
مثلما أنظر خصوصًا إلى الحبّ. إلى الحياة بالحبّ. وفيه.
وأسأل: هل كانت الحياة لتُعاش لولا الحبّ، لولا الشعر، ولولا السينما؟!
هذا المقال هو رسالة غرام. محض رسالة غرام. فاعذروني.