"لنزار قباني خمس قصائد فقط تُسمّى شعراً، والباقي حديث. فالشعر شيء والنثر الأدبي الجميل الراقي شيء آخر، لا نسمّيه شعراً احتراماً لأسلافنا وشعرائنا العظماء". بهذا الرأي الصادم، وجّه رضا الشملاني العنزي، الباحث السعودي في التاريخ، انتقاداً حاداً للشاعر الراحل نزار قباني الذي تميّز بنظمه الشعر الحديث وشعر التفعيلة.
في مناظرة بحثية مع العنزي، تعود "النهار" إلى مؤلفات قباني ومقابلاته التي يدافع فيها عن شعره، وتحديداً إلى كتابيه "قصتي مع الشعر" و"الشعر قنديل أخضر"، اللذين كتب فيهما مدافعاً: "رفضوني لأنني لم أكن أشبه الشنفري، ولأن كلامي كان عصرياً"، فتجد قباني قد ساق حججه على شعريته، قبل أن يُسأل عنها بزمن طويل.
لم يكن نقداً
الإنسان حيوان يقول شعراً ويتذوق شعراً. هكذا يطيب لنزار قباني أن يعرّف الإنسان الذي يغامر حين يضع أفكاره على الورق، وكأنه يردّ على اللغط الدائر حالياً حول شعره، واصفاً نفسه بأنه من "أمّة تتنفس الشعر وتتمشط به وترتديه، فكل الأطفال عندنا يولدون وفي حليبهم دسم الشعر، وأن يكون الإنسان شاعراً في الوطن العربي ليس معجزة؛ بل المعجزة ألّا يكون".
هناك من يعتقد أن الشعر لعنة العرب، لكن قباني يرفض هذا المنطق، ويتمسك بوصف الجاحظ الشعر بـ "فضيلة العرب". والفضيلة هنا أطهر ما في الإنسان وأشرف ما عنده، فكيف نجرد صاحب هذا الرأي من شعريته؟
قبل العنزي، كثيرون هاجموا قباني، ومنهم الشيخ علي الطنطاوي الذي قال فيه مرّةً: "في كتابه تجديد في بحور العروض، يختلط فيه البحر البسيط والبحر الأبيض المتوسط، وتجديد في قواعد النحو لأن الناس قد ملّوا رفع الفاعل ونصب المفعول، ومضى عليهم ثلاثة آلاف سنة وهم يقيمون عليه، فلم يكن بدّ من هذا التجديد..". فوصف قباني هذا الكلام بأنه "ليس نقداً بالمعنى الحضاري للنقد، إنما هو صراخ رجل اشتعلت في ثيابه النار".
كان قباني يتساءل في كتبه: لماذا تكون البساطة عدواناً على التاريخ؟ بل، لماذا تكون طفولة القصيدة سبباً من أسباب إدانتها؟ فهل تتعارض الطفولة مع البلاغة؟ وهل التعتيم شرط أساس لتأكيد ثقافة الشاعر وغنى عوالمه الجوانية؟
في كتابه "قصتي مع الشعر"، يقول إن كانت معلّقة عمرو بن كلثوم محطة من محطات التاريخ، فلا يصح أن نبقى محبوسين فيها إلى ما شاء الله. وإن كانت الربابة إرثاً تاريخياً جميلاً، فلا يجوز أن تبقى حتى نهاية الطرب.
نثرك مثل شعرك
"نثرك مثل شعرك لا بدّ من مصادرته"... بهذه الكلمات كان قباني يستشعر الأزمة المقبلة عليه ذات يوم، فقضية المستوى الفني عقدته المزمنة التي لم يشفَ منها، والتي ما أراد شفاءً منها، كما يقول في كتابه "الشعر قنديل أخضر" الذي ألّفه في عام 1963.
متتبع ما كتبه قباني يعرف رأيه المسبق بتقليدية القصيدة العربية وقافيتها، وكأنه يردّ على الهجوم غير المبرّر عليه، وعلى رمي شعره بـ "الخنبقة". فقد كان يرى أن موسيقى الشعر ليست مخطوطة كلاسيكية محفوظة في متحف، لا يُسمح لمسها أو إخراجها إخراجاً جديداً أو توزيعها توزيعاً جديداً. وبحور الشعر العربي الـ16 بتعدد قراراتها وتفاوت نغماتها ثروةٌ موسيقية ثمينة، يمكن أن تكون نقطة انطلاق نحو كتابة معادلات موسيقية جديدة في الشعر. فالحديث من هذا الشعر يُسمع بالعين، أي هو موسيقى مقروءة، وهذا دليل آخر على دخوله مرحلة التحضّر.
في معركة اليمين واليسار بالشعر العربي، يصف قباني اليمين بالجانب الوقور الهادئ الذي يؤمن بقداسة القديم، ويقيم له الطقوس ويحرق له البخور، ويرتبط ذهنياً ونفسياً ووراثياً بنماذج تعبيرية يراها نهائية وصالحة لكل زمان ومكان، رافضاً المساس بها. فما زال يمينيو الشعر يرون في "المعلقة" وفي "القصيدة العصماء" ذروة الكمال الأدبي وغاية الغايات.
وفي مواجهة القديم المتعصب لحولياته وألفياته، يقف جيل اليسار بطفولته ونزقه وجنونه. فهذا جيل مفتوح الرئتين للهواء النظيف، مبهور بالتيارات الفكرية الجديدة التي تهبّ عليه من كل مكان، فتعلمه أن يثور، وأن يرفض، وأن يحفر بأظافره قدراً جديداً. هذا جيل – بتعبير قباني – يعتقد أن القصيدة التقليدية كما ورثناها، بأغراضها المعروفة وأبياتها الملتصقة بعضها ببعض التصاقاً صنعياً فسيفسائياً، هي أقرب إلى الزخرف والنقش منها إلى العمل الأدبي المتماسك الملتحم كقطعة نسيج، وأن أسلوب بنائها يشبه بناء قلاع القرون الوسطى، بالمرمر والرخام وشموخ الأعمدة، فيما تشبه القصيدة الحديثة "ديكور" حجرة صغيرة وزعت مقاعدها ولوحاتها وأوانيها بما قد لا يوحي بالثراء، لكنه يوحي بالدفء والألفة، حُكماً.
هندسة القصيدة العربية
يهاجم قباني في كتبه القصيدة التقليدية التي يرى أنها لون من "الريبورتاج" السريع، يجمع فيه الشاعر كل ما يخطر في باله من شؤون الحب والحياة والموت والسياسة والحكمة والأخلاق والدين، فيعرضه بخطوط متوازية لا تلتقي أبداً. إنها مجموعة من الأحجار الملونة المرمية على بساط، تستطيع أن تزحزح أي حجر منها كما تريد، فتبقى الأحجار أحجاراً وتبقى القصيدة قصيدة. إنها هندسة مسطحة تعتمد على الخطوط الأفقية وعلى التقابل والتناظر، فيما هندسة القصيدة الأوروبية، بحسب قباني، فراغية تعتمد على البعد الثالث. ليس البيت فيها عالماً قائماً بذاته كما في نظيرتها العربية، إنه هو خلية حية تعيش في مجموعة خلايا تكوّن كياناً عضوياً واحداً. وحذف بيت في القصيدة الأوروبية معناه تعطيل الخلية كلها عن أداء وظيفتها.
لكن، هل تفوّق اليمين على اليسار؟ أو هكذا يخيل إلينا؟ "ربما"... يجيب قباني، لأن الفخامة والجزالة وتساقط الحروف العربية وتكسرها تحقق لها نجاحاً منبرياً أكيداً، فجمهورنا ورث غريزة التطريب، وحسه الموسيقي مرتبط تاريخياً بآلات ذات وتر واحد وبالأدوار الشرقية التي تعتمد على تكرار النغمة الواحدة بشكل دوري.
ولعلّ ثورة اليسار على ناحية الشكل في القصيدة التقليدية لا تعني أبداً رغبة اليساريين في إلغاء هذا الشكل أو حذفه، فوعيهم التاريخي والجمالي لطبيعة الشعر عموماً، ولطبيعة القصيدة العربية خصوصاً، وظروف نشأتها وتكونها، يمنعهم من التطرّف والمغالاة.
ويرفض اليساري تجميد أفكاره في قوالب كلسية جاهزة، ويرى أن البيان والبديع والطباق والجناس وما يتصل بها من فسيفساء لغوية، ليست سوى "حذاء صيني" أعاق الفكر العربي عن النمو والحركة قروناً.
مأساة القافية
لا يستطيع شاعر عربي، مهما كان مجيداً، أن يدّعي أن قوافيه كلها مستريحة، وأنه في أحسن حال دائماً. فعلى الرغم من سحر القافية وإثارتها، فإنها تبقى نهايةً يقف عندها خيال الشاعر لاهثاً، ولافتةً حمراء تصرخ بالشاعر "قف" حين يكون في ذروة اندفاعه وانسيابه، فتقطع أنفاسه وتسكب ثلجاً على شعلته المتّقدة، وتضطره إلى العود على بدء... من جديد.
كان يؤمن بأن القصيدة العربية انفصلت عن شجرة العائلة، وهربت نهائياً من "بيت الطاعة" ومن وصاية الأجداد، واكتشفت صوتها الخاص بعدما كانت مجموعة متراصفة من العادات اللغوية والبلاغية، فأخذت مع الزمن شكل المسلَّمات الدينية التي لا تقبل الجدال أو النقاش، واصفاً ذلك بـ "الوثنية الشعرية".
في كتاب "قصتي مع الشعر"، الصادر في عام 1970، يقول قباني إن القصيدة العربية بلغت سن اليأس في نهايات القرن التاسع عشر، وصارت عانساً لا أمل لها في الزواج والإخصاب. وهذا لا يعني بأي شكل من الأشكال أن القصيدة الحديثة بديل تاريخي، إنها هي النقيض والقطب المقابل، جاءت وجاء معها زمنها الخاص، بعدما كان جميع الشعراء العرب يسكنون زمناً واحداً، كما تسكن القبيلة خيمةً واحدةً، وتغرف الطعام من وعاء واحد.
تحرّرت القصيدة الحديثة موسيقياً من الجبرية، ومن حتمية البحور الخليلية، ووثنية القافية الموحّدة، وكسرت إشارات المرور الحمراء التي اعترضت حركتها وقصت أجنحة حرّيتها. وموسيقى الشعر الحديث مغامرة شخصية بين الشاعر والعالم، بين الشاعر واللغة. فلا يمكن التكهن بالصيغة النهائية التي ستصل إليها القصيدة العربية في المستقبل. وتبقى قصيدة النثر واحدة من الجزر الجميلة التي أهدتها الحرّية للشعر العربي الحديث.
تمّت هذه الانقلابات في بنية القصيدة العربية الحديثة بشكل انفجار مخالف لكل قوانين التاريخ الأدبي وتوقعاته. وتحفظ الذوق العربي العام على قراءة القصيدة الحديثة أو سماعها منتظرٌ وطبيعٌي، بل هو دليلٌ على أن هذه القصيدة متقدمةٌ على الذوق العربي العام.
جرثومة الشعر الحر
في كتاب "قصتي مع الشعر" نفسه، الذي يُعدّ سيرة ذاتية بكّر قباني في تأليفها، يرد أن التجديد في الشعر عملية معقّدة ومتشعبة، ولها أكثر من بُعد، إضافة إلى خضوعها لعوامل الزمن والتهيؤ، ككل عمليات الحمل والولادة. وعلى هذا الأساس، يرى قباني أنه لا يمكن القول إن فلاناً هو أول من اكتشف جرثومة الشعر الحر، فالشعر ثمرة تراكمات تاريخية ونفسية وحضارية لا تتوقف.
كان قباني يعتقد في طفولته أن 80 في المئة من قصائدنا "براويز" متشابهة بالطول والعرض والزخرفة، وأن 80 في المئة من شعرائنا نسخ فوتوغرافية منسوخة نسخاً رديئاً عن الأصل، وأن الزمن الشعري العربي واقف في مكانه، وأن شعرنا اليوم لا يختلف عن شعرنا في القرن الأول أو الثاني أو العاشر.
القصائد القديمة سهلة، هكذا يراها قباني، فطبيعتها مستوية ومكشوفة، وهندستها العامة لا تحتمل المصادفات ولا المفاجآت. إنها مجموعة مقننة من المهارات التشكيلية والتزيينية، يستطيع كل من تمرّس فيها أن ينتمي إلى نقابة الشعر. لكن الشعر الحديث حمل إلينا التعب، لأنه حمل السر وطرح الأسئلة وعلّمنا ما لم نعلم.
درس قباني القانون لكنه لم يمارس المحاماة، ولم يترافع في قضية قانونية واحدة. القضية الوحيدة التي ترافع عنها هي قضية الجمال. والبريء الوحيد الذي دافع عنه هو الشعر. فهل يجد من يدافع عن شعره في غيابه؟