النهار

كافكا في المئوية الأولى لوفاته: الكافكاوية أبديّة!
أحمد المديني
المصدر: باريس- النهار العربي
في الثالث من حزيران/ يونيو سنة 1924، أسلم فرانز كافكا الروح في ضاحية من فيينا (ولد سنة 1883 في براغ). بذلك تحلّ الذكرى المئوية لرحيل أحد عمالقة الأدب والرواية، والمصنّفين من الكلاسيكيين.
كافكا في المئوية الأولى لوفاته: الكافكاوية أبديّة!
كافكا
A+   A-
 
في الثالث من حزيران/ يونيو سنة 1924، أسلم فرانز كافكا الروح في ضاحية من فيينا (ولد سنة 1883 في براغ). بذلك تحلّ الذكرى المئوية لرحيل أحد عمالقة الأدب والرواية، والمصنّفين من الكلاسيكيين. 
 
وإذا كان أغلب هؤلاء، نذكر منهم مارسيل بروست، جيمس جويس، قد رُفع الحجاب عن أسرار حياتهم وألغاز كتابتهم، وتآليف وضعتهم في أعلى مراتب حداثة الرواية الغربية؛ فإنّ الروائي التشيكي الذي أبدع في جميع أعماله، السردية والسِّيرية والتراسلية، باللغة الألمانية، ظل عصيًّا عن التصنيف بالتأويلات اللامتناهية لشخصيته وأدبه زادت من تعقيد النفاذ إلى عالمه، فتكاثر لا نعرف أي كافكا هذا، وأي باب ندخل منه لنلج هذا العالم. 
 
كأنّ هذه الثروة الروائية، بما حملت من صورة للإنسان وهويته، ويفترسه من هواجس وقوى تحاصره، خفيةً جرّاء تراكمات سيكولوجية ووراثية وثقافية وعقيدية وخيالية؛ كأنّ ما قدّمه وأضافه شاب براغ اليهودي الألماني الثقافة، شبه المنفصل عن محيطه، من أرهص بأخطر ما سيعرفه العصر بعده من كوارث، ما كان ليوجد لولا الإخلال بوصية، معلوم أن أغزر التراث الكافكاوي نُشر بعد وفاته، وصل إلينا بواسطة صديقه ماكس برود (1884-1968) الكاتب من رافقه منذ بداياته وعرّفه على المحيط الثقافي الفني لبراغ، وتصادقا إلى نهاية حياته، ليعثر برود على وصية تخصّه مع كامل مخطوطاته، يطلب منه أن يتلفها عن آخرها.
 
من حظ الرواية أن برود تكتّم على وصيته واتجّه يحقق نصوص التركة وهرب بها من براغ عشية الهجوم النازي، لتُنشر لاحقًا تباعًا، ولتتعرف الأوساط الأدبية على هذا الرجل النحيل، من خلال نصوص ما فتئت تعتقت وتطيب لتشغل مكانة رفيعة في الخزانة الكلاسيكية للرواية، عناوينها تحولت إلى أيقونات، حسبنا ذكر "الحُكم"(1913) و"المسخ" أو" التحول" حسب الترجمة (1915). 
 
ومن ثم ما نشره برود بعد وفاته أبرزها: "المحاكمة"(1925) فـ"القصر" (1926) تحرّك لدى القارئ خيالات تعود به إلى عوالم محكيات لا فكاك له منها، قرأناها مرّات، وتسكننا شخصياتها، هي شخصية واحدة، تمتح من عصاب مؤلفها، صعّدها في حبكات خانقة سِمتُها الغرابة وظاهرها اللا معنى، وباطنها عجز أي مفكّر وناقد على حصره فُنعت بـ"الذي لا يدرك" لعبقرية تخييلية. ثمّة كلمة، صفة، حين يعيا الجميع على فهم شيء ويرى فيه ضربًا من اللامعقول يسمّيه: كافكاوية، وبالفرنسية KAFKAIEN فما الخبر يا ترى؟
 
 
 
التحوّل
ما أنفك أقرأ "La métamorphose" باكتشاف ودهشة. لنتجاوز (كليشيهات) من قبيل أن شخصيات كافكا سجينة عالم معاد لها، زوال الحميمية والخضوع لمراقبة دائمة (القصر)؛ الوقوع ضحية مظالم (المحاكمة)؛ انتصار الضعاف (جوزفين، المغنية)؛ رعب ترك سرير النوم (الجُحر)؛ كراهية الوالدين التي تعرقل رغباتنا (رسالة إلى الأب)، تيمات وهواجس أخرى متداولة لملء الخانة الفارغة لعدم الفهم، باعتبار أن لكل رواية موضوعًا واقعيًا تبنيه. هذا صحيح، فكافكا حريص على الدقة والوصف الحرفي لكي يتطابق دالُّه بمدلوله، قد تتلمذ على واقعية فلوبير بانتقاء صاف للكلمات وتناسب في التعبير، والباقي، الكيان الخصوصي لكاتب ورؤيته يوجد في مكان آخر.
 
سنحاول الذهاب إليه بآراء وتفسيرات قدّمها نقاد وروائيون عن سيرته وأعماله. لنبدأ بـ Reiner Stach صاحب أهم بيوغرافيا بالألمانية، في حوار معه (كتاب لومند، حزيران/ يونيو الجاري) ينبّه أن عالم كافكا داخليٌّ وبُني عموديًّا. 
 
حياته الأولى كانت حاسمة سيكولوجيّاً. من أسرة يهودية في براغ لأب طمح بالتجارة للاندماج والرفعة وتتنقل، فتميزت طفولته بعدم الاستقرار، وافتقاد الحنان، ترحّل بين مربّيات ووجوه وأمكنة أورثته القلق وفقدان الثقة في العلاقات والشعور بالوحدة، شحذت عنده قوة الملاحظة وكفاءة معرفة الذات ستساعدانه ليصبح كاتبًا. 
 
إنها تمثل عنده هيئة قوة طاغية ومزاجه الغاضب وخضوعه لمراقبة دائمة، ولّد عنده مشاعر الخوف والفزع لن يغادرانه، نقرأه هذا في "رسالة إلى الأب" وهي قطعة أدبية. عايش عنف الحرب العالمية الأولى، وفي الوقت حفر عميقًا في آبار "ليله الداخلي" سمّاها "الظلمة الأشدّ قتامة"، رسم وسطها الممرات وسبح في الأحلام. ليخلص البيوغرافي الألماني أن كافكا كان يحلم ويهتم بحياته الحلمية، وبها كتب قصصه الغريبة ذات التأثير الدائم على القراء: "لقد خلق حقًا شيئًا جديدًا تمامًا، بأن أدخل حرفيًّا الحلم إلى الأدب".  
 
تُعتبر قراءة الناقدة الفرنسية والمترجمة مارت روبير (1914ـ1996) من أهم الشروح الفاهمة للمتن الكافكاوي، درسته بشغف في "مدخل لقراءة كافكا" (l’Eclat ,2012). مختصر نظرتها إليه أنه يمثل منعطف تأويلات، له عديد مداخل لفهمه شخصًا وكتابة، أولها نسبُه اليهودي منه بعض معرفته بالتلمود، وإن رفض الانتماء إلى المجتمع اليهودي مفضِّلًا عليه إلحاده وعزلته. ثانيها، صلته المتوترة بالأب كجزء من علاقته المضطربة مع اليهودية، وأقل منها مع فكرة التمرّد على القانون بل الخضوع له، لنستحضر ما قاله الراهب لـ K في رواية "المحاكمة": "أنت مَن يأتي إلى القانون وليس هو ما يذهب إليك"، هكذا هو منصاع لا يعرف إن كان مظلومًا، لأن ما يتطلبه منه القانون يظلّ مجهولًا. تُلحّ روبير على الطابع اللا شخصي للكائن الذي يفقد معناه ويواجه الفراغ بعد موت فكرة "الإله"، ويعيش في عالم لا إنساني يقابله بالصمت. وضعية "تطلبت أن تجد لها في الفن شكلًا جديدًا مناسبًا لطابعها اللا شخصي وجدليتها، فتصبح اللغة الشاهد المحسوس عن الانحطاط والنسيان"(22).
 
 
 
 
الرؤيوي
قريبًا من روبير، يذهب ميلان كونديرا (1929ـ2023) إلى تأويل فلسفي، فيرى أن كافكا لم يتنبأ، يقصد بالكوارث التي ستلحق بالعالم من بعده، وإنما كان رائيًا رؤية مسبقة لما يوجد في الخلف. لم يعنه فضح نظام اجتماعي، وإنما كشف عن إواليات عرفها بالممارسة. هكذا أبرز في رواياته ما طبعها وتميز به في تاريخ الرواية وتفكير العصر: "النظرة المنوّمة للسلطة؛ البحث اليائس عن خطأ ما ارتكبه؛ الإقصاء والخوف من أن يُقصى؛ الانضباط التام للواقع والحقيقة السحرية لـ"الملف" مع الاغتصاب الدائم للحياة الحميمية. كل هذه المحن التي تعرّض لها الإنسان لاحقًا جسّدها في رواياته سنوات من قبل (...) ما كتبه كافكا عن شرطنا عجز كل تفكير سوسيولوجي  وسياسوي أن يقوله" (فن الرواية، 1986). 
 
يذهب بورخيس (1899ـ1989) إلى التركيز على هاجسين يتحكّمان في أعماله: التبعية واللانهائي. جميعُها مبنية على تراتبية بلا نهاية. أما الخاصية المحسومة عنده فهي خلق أوضاع لا تُحتمل، وإعداد الشيء عنده أهم من الخلق. 
 
يختصر بورخيس شخصياته في واحدة: "الشخصية المدجّنة، اليهودي جدًّا، الألماني جدًّا، الطامح إلى وضعية مهما كانت متواضعة، في نظام ما، في العالم، في وزارة، قاعة للمجانين، سجن" (كتاب المقدمات1980).
 
كل حديث عن كافكا في الذكرى المئوية الأولى لرحيله يبقى ناقصًا من دون الإشارة لعشيقاته، أولهن Felice Bauer التي بادلها 500 رسالة، جعلت التراسل عنده إلى معادل لعقد الزواج لم يطقه إيثارًا لوحدته. كل حديث في هذه الذكرى يدعو إلى التساؤل عن سرّ امتداد تأثيره بعد قرن من رحيله، ليصبح أيقونة فلسفية لم يفعل جورج أورويل (1903ـ1950) سوى تأكيد رؤيته في روايته الرهيبة "1984" ولا الأنظمة الشمولية تجسّدت كأنما تطبيقًا لرؤيته، فـ"المسخ" الكافكاوي مستمرّ. 
 

اقرأ في النهار Premium