لم يمثّل الهجوم الصاعق الذي شنّته "حماس" في 7 تشرين (أكتوبر) العام الماضي على إسرائيل، بما سمّته "طوفان الأقص"، حدثًا غير مسبوق في تاريخ الدولة العبرية، فحسب، بل فجّر حرباً شرسة تشنّها إسرائيل منذ 8 أشهر على قطاع غزة، أعادت النزاع العربي- الإسرائيلي الى الواجهة.
ويُعتبر العالم الغربي والأنكلو سكسوني طرفًا أساسًا في ما يحدث، وذلك منذ مصادقة عصبة الأمم على انتداب فلسطين، فولادة الدولة اليهودية برعاية وحماية القوى الغربية. ولهذا، أقلّ حادث يتعرّض له إسرائيلي في القدس أو تل أبيب يطير له صواب ساسة واشنطن ولندن وباريس وإعلامهم.
من جهة أخرى، طار صواب قسم من النُّخب العربية والرأي العام، بالاندهاش والاستغراب، لردود الفعل الصادرة مباشرة من تلك العواصم الغربية عقب "طوفان الأقصى"، وفي المراحل الأولى للهجوم الانتقامي الإسرائيلي الأعمى على غزة.
نتذكّر كلامهم عمّا اعتبروه حق الكيان الصهيوني في الردّ بالوسائل والطرق كافة، ولم تر أعينهم أي حقّ نزر للفلسطيني، استُرخصت في الصحف وبرامج التلفاز والمنتديات حقوق الإنسان، والمقاومة ليست إلاً إرهابًا، واستُبيحت في فرنسا، مثلاً، القيم العظمى للثورة الفرنسية في صفوف اليمين واليسار على السواء، فشعر الفرنكفونيون وخريجو الجامعات الفرنسية وكل الذين تربّوا على فكر التنوير ومبادئ الميثاق العالمي بالخذلان، ذُهلوا كيف تمّت التضحية بها لإعطاء إسرائيل الضوء الأخضر للقتل والتدمير، وكُمّمت أفواه أكاديميين وسياسيين؛ كلُّ ناطق بخلافه مقذوف سلفًا بتهمة معاداة السامية، دومنيك دوفلبان وهوبير فدرين بدورهما مشتبهان!
تراجيديا العصر الحديث
تواصلت حملة نصرة إسرائيل والتغاضي على عدوانها إلى أن بدأت أشلاء الأطفال في غزة تُجمع بالأيدي، وأبيض الأكفان يغطّي على سائر الألوان، والموتى بلا قبور يكاد لا يسعهم قبر جماعي ويُهال عليهم التراب؛ إلى أن توالى استنكار الأمم المتحدة وتنديد منظماتها لم تسلم مقارُّها من القصف، يُقتل اللائذون ببنايات غوث اللاجئين عمدًا بحجة ضرب "إرهابيي حماس" هي والمستشفيات والجامعات والمدارس، وعشرات الآلاف يؤمرون بالنزوح إلى حيث يُقصفون ويتساقطون تعبًا وجوعًا في مشاهد أبشع تراجيديا تعرفها البشرية في العصر الحديث.
ليست هذه عبارتي، بدأنا نقرأ معناها بين مُضمر وصريح في إعلام الغرب، وموقف السُّعار ضدّ "حماس" والتنكّر للحق الفلسطيني يتهافت، أصواتٌ رسميةٌ وشبهُها ووخزٌ يصيب الضمائر أقواها احتجاجًا (حزب فرنسا الأبيّة) بزعامة جان لوك ميلونشون، وباستحياء وتذبذب شخصيات ومنابر متفرّقة تعلو باستنكار المقتلة الفلسطينية ومندّدة بإسرائيل رغم تهمة مناصرة الإرهاب بالمرصاد للمنددين، فضلًا عن العداء للسامية سيف ديموقليس مُصلت على الرقاب. وتعرفون البقية في موجة الاحتجاجات الطلابية العارمة التي عمّت الجامعات الأميركية.
تحوّل فرنسي
يعنينا كثيراً التوقف عند التحوّل الذي مسّ وعي النخبة الفرنسية، بالأحرى تحرّرها النسبي من قيود اللوبي الإسرائيلي في المراكز الحسّاسة للإعلام والنشر والمال، حين تخطّى عدد ضحايا العدوان الإسرائيلي الـ35 ألفًا، افتُضحت جرائمُه وحرّكت ضمائر وشجعت على القول.
نقدّم لها مثالاً من الأسبوعية LE UN المجلة الباريسية حديثة العهد، يديرها المدير السابق لجريدة "لوموند"، إريك فوتورينو، ولا تخضع لأي تمويل، ما أكسبها حرّية التوجّه. في مطلع هذا الشهر أصدرت كتاباً استثنائياً في قلب الحدث عنوانه: "إسرائيل ـ حماس: لماذا الحرب؟".
يضمّ الكتاب مقالات مع باحثين ومؤرخين فرنسيين متخصصين في النزاع العربي- الإسرائيلي وتاريخ القضية الفلسطينية والمؤسسة الإسرائيلية واستراتيجيتها في الوجود وإدارة الصراع. تتكون مادة الكتاب من استهلال موسّع موضوعه: "خمسة أشهر من الحرب [على غزة] لماذا؟"، تتلوه مقالات هي نظرات مختلفة عنه أهمها: "في جلد الآخر" لميتان أرديتي الكاتب الروائي؛" هل المفاوضات مستحيلة؟" للباحثة في السياسة المختصة بالشرق الأوسط إليزابيت مارتو؛ و"الرهان هو قبول دولة فلسطينية لإنقاذ دولة إسرائيل" بقلم فانسان لومير مؤرخ مختص بالقدس.
يعزز هذا الكتاب حوارات مع شخصيات أكاديمية ولها باع في هذا الملف، أولها الباحث اللبناني غسان سلامة، وجيني رفليك غرونويو أستاذة تاريخ العلاقات الدولية في جامعة نانتير.
ويقدّم الكتاب ملفاً عن الفرص الضائعة لتحقيق السلم وحلّ المعضلة الفلسطينية في تواريخ 1948 و1979 و1993، وملفًّا آخر عن تاريخ قطاع غزة ومراجع لتعميق البحث في الموضوع.
هذا الكتاب محاولة فهم الحرب العدوان، وتأريخ النزاع القديم بتشابكاته، والوعي بالمنطق الاستعماري الذي يقود عمل نتنياهو والمتطرفين في محيطه.
يُجمع المساهمون في هذا التأليف على أن الحل العادل يقتضي الوصول إلى حل يحمي الفلسطينيين ويمكّنهم من حقوقهم، وفي الوقت نفسه يوفّر ضمان أمن إسرائيل على المدى الطويل. عديدة هي الأفكار الواردة فيه تحليلات من دون انفعال المنحاز.
نسجّل هنا ملاحظة، أن عملية الأقصى أخرجت القضية الفلسطينية من غياهب النسيان. إنها قلبت سياسة الشرق الأوسط رأساً على عقب، تقريباً. إن الجرائم التي ارتكبتها إسرائيل شوّهت جذريّاً صورة "الدولة اليهودية" في العالم وصولاً إلى اتهامها في المحكمة الدولية بجرم الإبادة.
أهوَلُ من زعم اجتثاث "حماس" تدمير جميع أنواع ومظاهر الحياة في غزة. انكشاف العقلية المهيمنة على الدوائر الإسرائيلية المتطرّفة بل غالبيةُ السكان غير معنيين بالبحث عن السلام، وهم متخمون برغبة سحق عدوهم [الفلسطيني]. عقيدة الجيش الإسرائيلي في العدوان الجديد على غزة مستمدة من غاراته على الضاحية الجنوبية لبيروت (2006) ويسمّيها (مذهب الضّاحية)، مفادها أنه في حالة الحرب مع عدو ليس جيش دولة ولكن يتبع لميليشيا "إرهابية"، فإن الطريقة الوحيدة للانتصار عليه هو تدمير مدُنه وقراه حيث يختبئ وسط السكان. كشفت تحقيقات إسرائيلية أن الإسرائيليين توحّشوا في أحقادهم وهم يتلذذون بقتل الفلسطيني رغبة وفعلًا، ومطلبهم سحق "حماس" حتى الرماد.
في الحوار معه يبدو غسان سلامة متشائماً، ويعتبر أن البيت الأبيض لا يتوفر على شخصية لإدارة النزاع، وأن أميركا تطرّفت في مساندتها لإسرائيل بما يجعلها عاجزة عن دور الوسيط. يرى سلامه ما يراه محللون غيره في هذا الكتاب، أن الخروج من الأزمة مشروط بقيام دولة فلسطينية، ولن يتأتّى إلّا بقدوم سياسيين آخرين، أي رحيل نتنياهو أو تكرّ السّبحة.
العدوان مستمر، ويبدو أن فظاعاته المتواصلة تضطر محافل غربية صمتت على الكلام وإدانة إسرائيل، بهذا تصحّح موقفاً للنخبة الغربية تأخّر لكنه في النهاية وصل وهذا هو الأهم، لمواجهة التضليل والأكاذيب. هذا الكتاب وأعمال أخرى مقبلة قد تعيد أنوار القيم الغربية إلى نصابها.