احتل البودكاست مكانة مؤثرة في مجال صناعة المحتوى الرقمي خلال الآونة الأخيرة، وتطورت أنماط إنتاجه؛ لينضمّ إلى صدارة المنصات الرقمية الأكثر انتشاراً.
ما هو البودكاست؟ من أين استقى أهميته؟ وكيف تطورت أشكاله تدريجاً؟
يقترب البودكاست من شكل الإذاعة، وإن اختلف عنها في كونه ليس بثأُ مباشراً، فيمكن الاستماع اليه في أي وقت. ظهر منذ العام 2004، لكنه ازدهر أخيراً خصوصاً خلال الإغلاق الناجم عن جائحة كورونا، وبدأ ينحو نحو الاتجاه المرئي، وهناك تنوع في محتوى البودكاست بين الترفيهي والتعليمي والسياسي والديني والعلمي وغيرها.
لا شك أن ثمة هجرة للجمهور العام من الشاشات إلى التطبيقات الرقمية، فالبودكاست نوع من الإعلام البديل، يرتبط بالتقدّم التكنولوجي لأنه يتمرّد على قوالب الإعلام التقليدي، حيث وجد الجمهور في البودكاست مساحة أكثر عمقاً وحرّية.
في العالم العربي، ثمة انتشار ملحوظ لهذا الوسيط وخصوصاً في السعودية والإمارات ومصر، وتأتي السعودية، ومن أشهرها البودكاست السعودي "فنجان"، وحققت إحدى حلقاته أكبر مشاهدة على مستوى العالم في تاريخ البودكاست، لتبلغ 102 مليون مشاهدة.
منافسة الإعلام التقليدي
ينافس البودكاست البرامج التلفزيونية والقوالب الإعلامية التقليدية، لكنه يختلف عنها في فرد مساحات لضيوفه للحديث بأريحية، وفتح سقف حرية في الحديث، بجانب فيض المعلومات، ما عزز الثقة به، بجانب استضافة شخصيات جديدة ومؤثرة أو استكشاف ملامح جديدة لشخصيات معروفة.
وهو الرأي الذي يتوافق معه الكاتب والمذيع التلفزيوني المصري أحمد الدريني، وتنبع وجهة نظره حول تصاعد الاهتمام بالبودكاست من ملاحظاته كممارس للعمل الإعلامي، سواءً في تقديم البرامج التلفزيونية أو إدارة مؤسسات إعلامية. إذ يرى أن البودكاست المصور تحديداً، قد يبدو أنه في قالب تلفزيوني، لكنه يختلف عنه في كونه غير متقيّد بمدى زمني، فأطول حوار تلفزيوني لا يتجاوز ساعة، بينما قد يمتد حوار البودكاست إلى 4 ساعات.
وأضاف الدريني في تصريحات لـ "النهار العربي": "البودكاست يكسر إيقاع الزمن ويتجاوز قوالب الصناعة التلفزيونية التي تتسم بالتكرار والتقيّد والتحفظ، فالبودكاست استنطاق إنساني هادئ ومريح، وكثير من الاستدراكات والتفاصيل حول شخصيات عامة لكنهم ليسوا مكبّلين بقيود الإعلام الكلاسيكي، فيسود الطابع الحكائي الإنساني، ويصبح المذيع أقرب الى الصديق بعيداً من الأسئلة الرسمية أو المملة".
قوة الصوت
في الأردن، قرّر الإعلامي محمد العموش، الذي عمل كمدير لإحدى الإذاعات التنموية، الاتجاه لصناعة البودكاست، وأسس شركة "صدى بودكاست" عام 2020 لإنشاء المحتوى العربي وزيادته على الانترنت، فأنتج حلقات للخليج والمغرب العربي ولبنان وفلسطين والعراق.
وحول دوافعه للعمل عبر وسيط البودكاست كشف العموش لـ "النهار العربي": "كنت وما زلت مؤمناً بقوة الصوت وسحره وقدرته على إرسال الرسائل المحفزة للمستمع على التخيّل، ونركّز في مؤسستنا على المحتوى الهادف الذي يخاطب المجتمعات ويطورها ويشجعها، وخصوصًا المرأة العربية، واستخدام البودكاست للتعبير عن ذاتها وطموحها وأحلامها وتحدّياتها".
ويرى العموش، أن أسباب انتشار البودكاست يعود لأسباب عدة، منها زيادة استخدام الهواتف الذكية وسهولة الوصول إلى الإنترنت، ومن ثم الوصول للمحتوى في أي وقت ومكان، كما يوفّر محتوى متخصصاً ومتنوعاً يلبّي اهتمامات مختلفة، ما يجعل الجمهور يجد بسهولة ما يناسبه، كما أن المنصات الرقمية مثل "سبوتيفاي وأبل بودكاست" توفر واجهات سهلة الاستخدام تسهّل اكتشاف المحتوى الجديد".
البودكاست.. تجربة تونسية
ومن تونس تحدثت سيرين عبيدي المديرة التنفيذية لـ"كورطابل"، وهو مختبر لصناعة البودكاست والبرامج الرقمية بالعربية والفرنسية والإنكليزية، وتتعاون حالياً مع مركز الصحافيين الدوليين، لتكون المنتجة والمقدّمة لأول نسخة عربية لبودكاست شبكة الصحافيين الدوليين، التي تحتفل بعامها الأربعين.
عن هذا الموضوع، تتحدث عبيدي لـ "النهار العربي" قائلة: "البودكاست يقدّم محتوى متخصصاً يساعد المتلقي في فهم التحدّيات والفرص في مجالات عدة، ما يسهم في نشر المعرفة وتعزيز الوعي". وأضافت: "من خلال شراكاتنا مع عدد من المؤسسات التعليمية وورشات البودكاست في معرض الكتاب التونسي، اكتشفنا أن البودكاست يساعد الأطفال في تحسين مهاراتهم في التحدث والكتابة والاستماع، ويعلّمهم البحث والتحليل وتقديم المحتوى بشكل منظّم ومنطقي، ويمثل مدخلاً لهم إلى التكنولوجيا والإعلام الرقمي، ما يفتح أمامهم فرصاً تعليمية ومهنية في المستقبل. وبهذا يمكن أن يكون أداة فعّالة للتعليم والتوعية وتمكين الأفراد في مختلف المجالات المختلفة".
هجرة الجمهور إلى البودكاست
عبر صفحته على موقع "فيسبوك"، دعا الكاتب والروائي المصري رامي رأفت الحائز جائزة "كتارا" للرواية العربية 2023 متابعيه إلى الاستماع لمنصات البودكاست من أجل إثراء معرفتهم، مرشحاً عدداً منها نظراً لمحتواها الثري.
وقال رأفت لـ "النهار العربي" إن "البودكاست اكتسب أهميته من أن مصادر الترفيه وتلقّي المعلومات تطورت خلال الفترة الأخيرة، وبدأ الجمهور في الهروب من الوسائط التقليدية مثل التلفاز، بسبب طول المادة الإعلانية التي أصبحت فجّة ومنفّرة جداً".
المؤسسات الإعلامية والبودكاست
في عام 2023، أظهرت الإحصائيات أن هناك نحو 464.7 مليون مستمع للبودكاست حول العالم، ويُتوقع أن يرتفع هذا العدد إلى 504.9 ملايين في عام 2024. في العالم العربي، أظهرت دراسة أن نسبة مستمعي البودكاست قد زادت بنسبة 55% بين عامي 2019 و2021، مع تزايد الاهتمام بالبرامج التعليمية والثقافية والترفيهية.
بدأت المؤسسات الإعلامية والتلفزيونية الكبرى في الدخول إلى ساحة إنتاج البودكاست بإمكانات ضخمة مثل "الجزيرة والشرق للأخبار، والعربية"، فأصبح تلقائياً اللجوء إلى صناعة محتوى مرئي والاستعانة بكبار مذيعيها للاستفادة من جماهيريتهم لتقديمها، وهذا ما فعلته ايضاً شبكة "إم بي سي" مع المذيع عمرو أديب.
جذب البودكاست كبار الإعلاميين العالميين ايضاً، فقبل نحو عامين أعلن الإعلاميان في "بي بي سي"، إيميلي مايتليس وجون سوبل، رحيلهما عن الشبكة لتقديم برنامج مشترك على "البودكاست".
مستقبل البودكاست
لا شك أن تنامي صناعة البودكاست يدفعنا للتساؤل حول مستقبله. ويرى الإعلامي الأردني محمد العموش، أنه ما زال في مرحلة النمو ما عدا السعودية والإمارات ومصر، وتأتي السعودية في المرتبة الأولى عربياً والثانية عالمياً بعد الولايات المتحدة، مشيراً إلى أنه سينمو بشكل أسرع خلال الفترة المقبلة ليكون في المرتبة الأولى عربياً.
لكن ثمة تخوفات من هذا الإقبال على إنتاج البودكاست، كأن يؤدي إلى تسلل الفوضى واقتحام أشخاص غير مؤهلين من مشاهير "التيك توك والانستغرام"، ما يؤثر ذلك على نوعية المحتوى، فيتحول إلى السطحية في الأفكار واختيار الموضوعات والضيوف.