النهار

"البودكاست"... أنقذ الكلمة التائهة في زحام البصري
شريف صالح
المصدر: أبو ظبي- النهار العربي
لجأ الناس بقوة إلى مساحات بديلة خلقها عالمنا الافتراضي، ومن بينها ظاهرة "البودكاست" التي ازدهرت في العقد الأخير. ​
"البودكاست"... أنقذ الكلمة التائهة في زحام البصري
بودكاست
A+   A-
 لماذا لا تنتهي الحروب؟ من الصعب أن تنتهي طالما هناك إنسان يطمع في أخيه الإنسان ويرى نفسه أفضل منه ومستحق للحياة عنه. فأية منافسة ـ والحروب منافسة، حتى وإن لم تكن متكافئة ـ تتخذ مسارات عنفية ومجحفة، ما لم يتوفر لها قوة الحوار. فالحوار يعني تأطير أي خلاف أو جدل في نطاق الكلمة لا القوة. هو فضاء الرأي والرأي الآخر. أي العدالة في منح الأصوات. والحرّية في التعبير.
وكلما ضيّقت الحكومات مساحات الحوار في فضاءات الأحزاب والنقابات والجامعات والنوادي والمقاهي ومحطات القطارات، لجأ الناس بقوة إلى مساحات بديلة خلقها عالمنا الافتراضي، ومن بينها ظاهرة "البودكاست" التي ازدهرت في العقد الأخير.
 
تجربة في معرض أبوظبي
 خلال زيارتي الى معرض أبوظبي الدولي للكتاب في نسخته الأخيرة، لفت انتباهي وجود برنامج خاص يومي للبودكاست، يستضيف عشرات المبدعين والمشاهير من أجيال مختلفة، وكان من أبرز من يديرون هذا البرنامج الروائي المصري وليد علاء الدين المقيم في الإمارات.
 
سألت وليد: لماذا البودكاست؟ وما سرّ شهرته الآن؟ فأجاب: "أعتقد أن السبب الرئيس في انتشار البودكاست بين الأجيال الجديدة، هو أن الإنسان بطبيعة تكوينه شفهي. أول ما يدير مفاتيح خيال الإنسان هو الصوت، بدايةً من لحظة وجوده في الرحم، مروراً بحكايات الأمهات والجدات والآباء، وتعليمات الأسرة. كل هذه المعطيات تصله عبر حاسة السمع، قبل أن ينتقل إلى مرحلة تعلّم القراءة والكتابة. ليس الأمر مجرد استسهال كما يحاول بعضهم توصيفه، ولكنه ميل إلى استخدام الحاسة التأسيسية وهي السمع. لذلك ليس من الغريب أو المدهش أن تحظى تجربة البودكاست التي أطلقها معرض أبوظبي الدولي للكتاب بهذا النجاح والإقبال من الشباب وغيرهم من الفئات العمرية الأكبر والأصغر، لأن التجربة سُخّرت لمخاطبة الشباب بمضامين منضبطة ومحتوى راق مصوغ بعناية وخبرة".
 
سرّ النجاح
كلام وليد علاء صحيح عن ردّ الاعتبار لحاسة السمع ودورها التأسيسي في تلقّي المعرفة لجميع البشر، إضافة إلى أن "البث الصوتي" يملأ فراغات خاصة به مثل أوقات قيادة السيارة أو الركض ولعب الرياضة أو عند الطبخ. بل يستطيع الإنسان أن يسمع وهو في كامل استرخائه مغمض العينين وحده.
 
ولا ننسى أن السمع ليس حاستنا الأولية فقط، وعن طريقها يُبعث الخلق مجددًا، بل هي أيضًا حاسة تحيط بنا من كل الجوانب، ولا تتطلّب اتجاهًا معينًا ولا شروطًا للتلقّي. فالقراءة تتطلّب انتباه العين والوصول إلى مستوى معين من فهم قواعد اللغة، لكن السمع لا يتطلّب ذلك.
 
إضافة إلى أن البصر يعاين ويعين المرئيات ويحدّد أبعادها وألوانها، من ثم يقيّد الخيال، في حين أن السمع يُطلق الخيال لعنان السامع.
لذلك يمكننا ردّ ظاهرة "البودكاست" ونجاحها السريع إلى ردّ الاعتبار إلى حاسة السمع، منح الشباب مساحات واسعة لحرية التعبير والتدوين الصوتي، ومشاركة أفكارنا مع الآخرين، وإطلاق العنان للخيال، وتعزيز ثقافة الحوار والاختلاف، إضافة إلى قلة التكاليف والشروط المطلوبة سواءً للمتحدث أو للمستمع. فالبودكاست حتى وإن جاء مصوراً يظلّ يعتمد أساساً على البساطة في الديكور والطلّة، لأن الاعتماد الأساسي يكون على القصة نفسها (المادة المسموعة) أكثر من أي شيء آخر.
 
 
صراع الوسائط
إذا كنا نقرأ تاريخ الوسائط وانتقال مركزيتها تباعاً من المطبعة والورق إلى التلغراف مروراً بالإذاعة ثم التلفزيون ووصولاً إلى الهواتف الذكية، فالملاحظ أن تلك الوسائط لا تموت كليًا بل يُعاد تدويرها. وبالفعل ساهمت الثورة المعلوماتية وشبكة الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، في إعادة إنتاج وسائط تصورنا أنها أوشكت على الاندثار.
 
فالإذاعة التي تراجعت بشدة مع سطوة التلفزيون ثم الهواتف الذكية، وبدت كأنها طلل قديم، ها هي تعود من نافذة "البودكاست" لأن كلا الوسيطين هو "بث صوتي".
مع فارق مهمّ، لأن الإذاعات في صيغتها الكلاسيكية كانت تُعبّر عن سطوة ومركزية الدولة وتخضع لقوانينها ورقابتها الصارمة، ومن يعمل فيها هم موظفون (إعلاميون) يُبلغون "كلمة" الدولة إلى "جمهور المستمعين". بينما البودكاست لا يتطلّب تلك الصفة ولا الصيغة الرسمية، وليس خطاباً متعالياً، وغير مقيّد بترسانة من الضوابط والقوانين، بل هو مجرد تعبير صوتي فردي يخصّ صاحبه الذي يطمح إما لتوسيع جمهوره وزيادة دخله المادي وإما للتعبير عن نفسه والتدوين الصوتي.
 
صحيح لدينا وسائط موازية تعطي الأولوية للتعبير والحضور البصري مثل "تيك توك" و"إنستغرام" و"يوتيوب"، لكن الملاحظ أن طغيان الصور خلق حالة من الفوضى والتشويش على حساب المعنى. فسطوة الصورة أضعفت الرسالة مثلما شوّهت الإعلانات دراما المسلسلات وحالت دون التماهي معها. كأن البودكاست يعيد ربط أجزاء المعنى ويقلّل عناصر البهرجة والتشويش لمصلحة الرأي والتحليل وإمعان التفكير.
 
وهذا ينقلنا إلى التطورات المدهشة في صناعة المحتوى الرقمي، ليس فقط من ناحية سهولة الكلفة والبث، وإنما أيضاً لقدرتها العظيمة على صناعة المستقبل، فمن يتكلم الآن يضع بنفسه صوته في المستقبل، ويحفظه لأجيال مقبلة. يقول كلمته لأحفاده الذين لم يولدوا بعد. في حين أن الوسائط الكلاسيكية الخاضعة للسلطة سرعان ما يتلاشى ويختفي أرشيفها لأسباب يطول شرحها.
 
 
فرق جوهري
ثمة فرق جوهري بين البودكاست Podcast وهو تسجيل صوتي يرفعه صاحبه وقتما يشاء، ويقدر المستمع أن يستعيده في أي وقت، وهذا يعني أنه يتطلّب مرحلة تحضير، ثم مرحلة تسجيل، وأخيرًا: البث. وبين البرودكاست Broadcast وهو بث مباشر مثل الإذاعة لا يُستعاد، وقد يشارك عدة أطراف عدة في التوقيت نفسه.
 
وبرغم أن شركات عملاقة ترعى البودكاست وتوفر منصات بثه مثل "أبل وساوند كلاود"، إلّا أن ميزته الأساسية أنه نقل فلسفة الإذاعة من التعبير عن الدولة والسلطة والمدن والمذاهب والعرقيات إلى التعبير عن الذات. فبدلًا من محطة راديو للشعب كله أصبح بإمكان كل مواطن أن يُطلق محطة راديو خاصة به وحده.
الكلمات الدالة

اقرأ في النهار Premium