في شباط (فبراير) من العام الماضي، أقام معهد العالم العربي في باريس احتفالية بعنوان "إبداعات خالدة من السينما الكلاسيكية"، ضمّ برنامجها تكريم عدد من الرموز الفنية السينمائية، كان من بينهم المخرج هنري بركات، وهو واحد من أغزر المخرجين في تاريخ السينما المصرية.
أُقيم الحفل وصعدت إلى المسرح ابنة المخرج بركات لتتسلّم تكريم والدها، بعدما تمّ منحه لقب "شيخ المخرجين العرب"، وهو كان قد حاز في حياته عدداً من الألقاب من بينها "شيخ المخرجين".
ولد بركات في حي شبرا، أحد أشهر الأحياء في القاهرة قبل (110) سنوات وتحديداً في 11 حزيران (يونيو) 1914، تخرّج من مدرسة الفرير الفرنسية ودرس القانون تنفيذاً لرغبة والده الطبيب. ينحدر من أصول شامية، حيث هاجر جده لوالده من مدينه "باب توما" في دمشق ليستقر في مصر مع من فرّوا من اضطهاد السلطات العثمانية حينها للمسيحيين الشوام.
على مدار نصف قرن، قدّم بركات مجموعة كبيرة من الموضوعات عبر أكثر من 100 فيلم، قام بالكتابة أو المشاركة لنصفها تقريباً، وكان آخرها فيلم "تحقيق مع مواطنة" (1993) قبل أن يجبره المرض على الابتعاد حتى رحيله في أيار (مايو) 1997، تاركاً إرثاً مهماً ومحفوراً في ذاكرة السينما العربية.
في أثر السينما
بدأ بركات عمله في السينما صدفةً عبر مشروع دخله هو وأخوه وصديقهما، لكنّ الفيلم خسر، فقرّر أن يسافر إلى باريس لتعلّم السينما من أجل صناعة فيلم جديد، لم تكن معاهد تدريس السينما قد ظهرت بعد، لذلك تحتّم على الشاب الالتحاق بأحد الأستوديوهات السينمائية متنقلاً بين المونتاج والتصوير والإخراج والديكور، ليشبع نهمه في المعرفة.
يأتي بركات في الترتيب الخامس بين المخرجين ضمن قائمة أهم 100 فيلم في تاريخ السينما المصرية، حيث يشارك بأربعة أفلام، واحداً منها يُعتبر ضمن أول عشرة أفلام في القائمة، وتتميز غالبية أفلامه بصورتها الشعرية المختلفة، التي يتمّ توظيفها درامياً وفق دلالات متباينة، ولعلّ فيلم مثل "في بيتنا رجل" (1961) يعدّ مثالاً جيداً على ذلك، وفيه تحرّر بركات من سطوة الكاميرا لخلق فضاءات درامية بصرية مغايرة.
وهي لا تخلو من تجريبية تُحسب له. وقد أجاد في تقديم مشهد يُعتبر من المشاهد الأكثر شهرة وأهمية في تاريخ السينما، وفيه نتابع هروب البطل عمر الشريف من منزل صديقه وقت الإفطار في رمضان، متنقلاً من العمارة إلى شوارع القاهرة، وفي الخلفية نستمع إلى صوت رفع الآذان كاملاً.
عاشق النغم
كان هنري بركات عاشقاً للموسيقى منذ صغره. اهتم في أفلامه بالأغنية، مكرّساً لها أدواراً عدة ومساحات من البطولة، نتجت من ذلك مجموعة كبيرة من الأغنيات تميّزت بدراما خاصة، ونجد أن بركات قد تعاون مع عدد كبير من المطربين على مدار مشواره الفني كان آخرهم اللبناني وليد توفيق الذي قدّم له فيلماً متواضعاً بعنوان "أنغام" سنة (1986).
في العام 1959، كان بركات قد جازف في فيلم "حسن ونعيمة" بطولة سعاد حسني والمطرب محرم فؤاد، لأنهما كانا غير معروفين وقتها، وكان مقتنعاً أن مثل هذه القصة تحتاج وجوهاً جديدة.
تعاون مع جارة القمر "فيروز" أيضاً، حيث أخرج لها فيلمين "سفر برلك" و"بنت الحارس" وعُرضا في العام نفسه (1967)، أحتوى الفيلمان على عدد كبير من أغنيات فيروز الشهيرة والمميزة، نذكر منها: "نسّم علينا الهوى، يا طير، عاقد الحاجبين، تك تك يا أم سليمان، وعلموني...".
من ضمن الشراكات المميزة أيضاً في تاريخ بركات السينمائي علاقته مع الموسيقار فريد الأطرش، والتي لم تقف عند الإطار الفني وفقط؛ بل تجاوزت ذلك لصداقة كبيرة امتدت حتى رحيل الأطرش؛ حيث كان بطلاً لما يقارب 10 في المئة من رصيده السينمائي، في تعاون استمر علي مدار ربع قرن، بداية من فيلم "حبيب العمر" (1947) وحتى آخر أفلام فريد "نغم في حياتي" (1975)، التي شاركته بطولته ميرفت أمين.
يُعتبر فيلم "عفريتة هانم" (1949) من أروع ما قدّم الثنائي "بركات/الأطرش"، من خلال الحبكة الذكية التي وضعها السيناريست "أبو السعود الابياري" مستلهماً أجواء "ألف ليلة وليلة" في قالب عصري فكاهي، ولم يمنع ذلك من تقديم الأوبريت الاستعراضي "الربيع" في أجواء رومانسية شفافة ساهمت فيها رقصات "سامية جمال" وكلمات "مأمون الشناوي" وهو واحد من العلامات المهمّة في تاريخ الفيلم الغنائي العربي.
وفي فيلم "لحن الخلود" (1952) نتابع في أحد المشاهد جلسة عائلية عادية يغني فيها "وحيد" أغنية "جميل جمال" وعلى مدار الأغنية يتجول بركات بكاميرته داخل نفوس شخصياته يكشف حيناً ويداري حيناً.
شهد عقدا الخمسينات والستينات ازدهاراً للفيلم الغنائي في تجربة بركات، فأخرج للعندليب الأسمر عبد الحليم حافظ ثلاثة أفلام "أيام وليالي/1955. موعد غرام، بنات اليوم/ 1956"، ولشادية فيلم "ارحم حبي"(1959)، من دون ان ننسى فيلم "ورد الغرام" (1951) لمحمد فوزي وليلى مراد، في واحدة من أشهر وأجمل الثنائيات التي لا تنسى "شحات الغرام".
سيدة الشاشة والحياة
قدّمت فاتن حمامة خلال مسيرتها ما يفوق 100 فيلم، كان لخمسة أسماء من المخرجين تقريباً النصيب الأكبر في إخراج هذه الأفلام، بعدسة شيخ المصورين "وحيد فريد" صاحب نصيب الأسد في رحلة حمامة.
ويأتي هنرى بركات واحداً من هؤلاء المخرجين، حيث أخرج لفاتن نحو 20 فيلماً، كان آخرها فيلم "ليلة القبض على فاطمة" (1984) عن قصة للكاتبة سكينة فؤاد، حقّق الفيلم نجاحاً جماهيرياً بسبب قصته الميلودرامية، والتي تتعرّض لفكرة عدم الوفاء الذي يمكن أن يقابله الشخص من أقرب الأقربين.
في حوار سابق، تقول فاتن حمامة: "المرّة الوحيدة اللي زعلت فيها مع بركات كانت مع فيلم حبيبتي"، عُرض الفيلم عام (1974) ولم يحقق النجاح المرجو، الأمر الذي ترجعه حمامة بسبب اصرار هنري على إغفال تفصيلة صغيرة في القصة المأخوذ عنها السيناريو، والتي تروي حكاية حب لاجئين سياسة - وليس مجرد عاشقين- ما وجده بركات سيقف عائقاً في التوزيع داخل العديد من البلاد العربية؛ فلم يكن من المعتاد وقتها تناول موضوع اللجوء السياسي من خلال الأعمال السينمائية، وفي العموم كان هنري بركات يرفض تصنيف أفلامه أو بعضها بالسياسية، مفضّلاً نعتها بالوطنية؛ فهو لا يحمل أفكاراً تناهض اي سياسات حاكمة، بل يعنيه الانسان في المقام الأول، وهو ما كرّره بركات سابقاً في أكثر من مناسبة أو حوار، مؤكّداً أن أفلامه لم تنطلق يوماً من أيديولوجيات موجّهة.
احتلت المرأة وقضاياها الجانب الأكبر من مشروع بركات السينمائي، تعزو ابنته ذلك إلى فقده لأمه في سن مبكرة، وتقول: "كنا جميعاً من حوله من النساء، أنا وأختي وأمنا"، من هنا نجد المرأة حاضرة بقوة في عالم بركات، ونجد فيلم مثل "الباب المفتوح" (1963) عن قصة للكاتبة لطيفة الزيات يُعدّ واحداً من أكثر الأفلام النسوية، بجانب ذلك أيضاً يأتي فيلم "أفواه وأرانب" (1977).