28 تشرين الأول (أكتوبر) 1962. الفرنسيون قالوا "نعم" مرّتين. ظلّ الجنرال ديغول رئيساً للدولة بفعل 12 مليون "نعم" من 12 مليون ناخب فرنسيّ لمشروعه الرامي إلى انتخاب رؤساء الجمهوريّة الفرنسيّة في المستقبل عن طريق الاستفتاء الشعبي. الساعة تشير إلى الثانية صباحاً يوم الجولة الأولى من الانتخابات. عشر دقائق على التلفزيون، وأغنية محورها الوحدة. شابّة نحيلة خجولة، بتنّورةٍ وسترةٍ يكسر سوادهما شعرها الأشقر وعيناها الخضراوان. الـ"نعم" الثانية أُسقطت في رصيدها، وفي شوارع جادة سان ميشيل، تردّدت لازمة أغنيتها. "كلّ الأولاد والبنات في سنّي / يتجوّلون في الشوارع اثنين اثنين / كلّ الأولاد والبنات في سنّي / يعرفون جيّداً ما يعنيه أن تكون سعيداً".
لم تعرف أوّل أسطوانة (45 لفّة) طرحتها فرانسواز هاردي ناجحاً يُذكر. ليل 28 تشرين الأول، خلال إحدى الفواصل التلفزيونية، حلّت بوقارٍ وغنّت، تلك الخجولة التي ولدت في فرنسا - بعد - الحرب، حين كانت ظلال الصراع لا تزال تخيّم فوق ثورة ثقافية جديدة كانت تتخمّر. عشر دقائق أشعلت فتيل نجوميّتها. في اليوم التالي، زادت المبيعات زيادة كبيرة. في أجهزة "الجوك بوكس" كانت أغانيها تُشغّل بلا انقطاع. كلماتها الحزينة، مقرونة بصوتها الرقيق، تلاقي صدى كبيراً، معبّرةً عن جوهر التوق الشبابيّ والتفكير الوجوديّ. الرسائل تنهال عليها من كلّ حدب وصوب؛ فتيات ينشدن مثاليّة فرانسواز الرومانسيّة ويحدّثنها عن قصص الغرام ويستشرنها بقصّات الشعر، وشباب يكيلون لها عبارات الإعجاب، ويتركون في بريدها عشرات القصائد علّها تتغنّى بها. بعد عام، كانت قد باعت أكثر من مليوني أسطوانة "فينيل".
أيقونة ميلانكوليّة
كانت في الثامنة عشرة من عمرها، وكانت أولى أغنياتها. "كلّ الأولاد والبنات"، التي وضعت كلماتها بنفسها، حجزت لها مكاناً على الساحة الفنية في خضمّ غزو موسيقى البوب التي عُرفت بالـ"يي يي". في تلك الفترة الطائشة، كانت ميلانكوليّتها تميّزها. بكلّ تناقضاتها، غنّت "أمشي وحيدة في الشوارع/ بروح متألمّة/ لأنّ لا أحد يحبّني"، وأنشدت الوحدة والرغبات غير المحقّقة، وهي مواضيع لاقت صدًى لدى جيل يكافح مع تعقيدات الحياة الحديثة. وبمظهرها الأندروجيني وبساطتها البعيدة عن مبالغة داليدا بالتبرّج وبرجوازيّة بريجيت باردو، مهّدت الطريق لعارضات الأزياء الطويلات النحيلات.
امتدّ تأثير هاردي إلى ما وراء الموسيقى. ها صورها تتكبّد أغلفة المجلات؛ في فرنسا كانت ربّة الوحي لجان ماري بيرييه، ثمّ أعطت بُعداً واقعياً لفوتوغرافيا ويليام كلاين. أسلوبها المميّز أصبح أيقونياً. شعرها طويل وغرّتها مهذّبة وملابسها بسيطة، وجد فيها باكو رابان شكلاً مثالياً لتصاميمه المستقبلية، فترسّخت مكانتها بصفتها أيقونة للأزياء.
"لا أملك ذهنيّة المتشرّد"
في بداية مسيرتها، وقّعت هاردي على عقود للظهور في السينما. ظهرت أولاً في فيلم "قصر في السويد" (1963) للمخرج روجيه فاديم، الدراما العائلية المقتبسة من مسرحية لفرانسواز ساغان، ثمّ كانت لها تجارب صغيرة في عدد قليل من الأفلام الفرنسية، مثل "مذكّر مؤنّث" لجان لوك غودار، و"لو كان الأمر ليُعاد" لكلود ليلوش، بالإضافة إلى إنتاجات أجنبية، من الأفلام الإيطالية إلى الإنكليزية.
عام 1969، خلال زيارتها لبنان برفقة ماكس إرنست وأندريه ماسون وأندريه بروتون، لحضور حفلات رائد "الموسيقى الواقعية" شتوكهاوزن في مغارة جعيتا، قالت لـ"النهار": "لم أعد أهتمّ بالسينما بعد فشلي في "قصر في السويد" و"الجائزة الكبرى"، كما أنّني لا أحبّ المسرح لأنّني لا أملك ذهنيّة المتشرّد، فأنا أحبّ البيت. حتّى أنّني لا أسافر إلّا إن كنت أنفّذ عقداً، فأنا أكره السفر".
"رسالة شخصية"
قصة حبّ فرانسواز هاردي كان عنوانها جاك دوتروك. بدوره، هزّ المشهد الموسيقيّ بأغنية "وأنا، وأنا، وأنا"، في عام 1966، وأنجبت منه ابنهما توماس. لكنّ خيبات الأمل ملأت علاقتهما بسبب خيانات جاك المتكرّرة - من ضمنها علاقته برومي شنايدر - "والمسافة التي فرضها على هاردي"، وفق تعبيرها. في شقّتهما الباريسيّة، قبل الانفصال، من دون طلاق، عاشا كلّ واحد في طبقة منفصلة.
انعكست الحياة الزوجية المتقلّبة، بحلوها ومرّها، على أعمال هاردي. والطعم المرّ للحبّ العاصف والاضطراب الذي عاشته ترجمتهما في "رسالة شخصية". منذ سنوات تتبادل وإيّاه الرسائل يومياً. "للأسف، لم يجسّد أقواله بشكل أكبر قليلاً خلال العشرين عاماً"، قالت، "والتي كانت أصعب بالنسبة لي أكثر ممّا كانت بالنسبة له، حين كنّا نعيش معاً".
في منزل مونتيسيلو، الذي بنته في كورسيكا العليا، يعيش جاك اليوم وصديقته سيلفي دوفال. في كانون الثاني (يناير) الماضي، قالت هاردي لمجلة "باري ماتش" إنّها تفتقد المنزل والحديقة، "لكن بما أنّه أصبح من المستحيل بالنسبة لي الذهاب إليهما، وأكثر من ذلك، العيش فيهما، أتجنب التفكير في ذلك"، قالت. كانت تلك المقابلة الأخيرة، ولعلّها الأكثر سوداويّة. حين سُئلت عن مشاريعها المقبلة، أجابت بأنّها تريد "الرحيل إلى البُعد الآخر مبكراً، بأسرع وقت ممكن، وبأقلّ ألم ممكن". وكان لها ما أرادت.