أي مصادفة مفجعة تلك أن ينعي المرء نفسه، وكيف للموت أن يكون "حلواً" رغم مرارته وقسوته؟ أليس "الموت الجميل" كحالة فردية مرتبطة بفكرة أن تكون حُرّاً- قولاً وفعلاً- وأن تدفع ثمن هذه الحرّية حتى آخر لحظة من حياتك؟.
"الحرّية الحمراء" التي دعا لها أحمد شوقي يوماً، وبكل بما تحمله من طابع "انتحاري" ومجدٍ أبدي تجسّده كلمةُ "لا" كما يجاهر أمل دنقل في نصه الشعري الشهير "كلمات سبارتاكوس الأخيرة"، قرّر فؤاد حميرة أن يعيشه بكل تفاصيله المؤلمة، ولكن بإيمان وعزيمة ورضا عن الذات، ليلخّص النهاية- نهايته- بكلمات فيها من الهزل الساخر بقدر ما فيها من ألم وتعب، وفيها من المرح الشقي بقدر ما فيها من حسرة الوداع.
"اكتشاف متأخّر موّجع"
"أيوووه... ده الموت حلو يا ولاد"، تلك هي العبارة الأخيرة التي كتبها الكاتب والسيناريست السوري الراحل فؤاد حميرة (59 عاماً) وهو على سرير الموت، عبر صفحته الشخصية على "فيسبوك"، قبل وقتٍ قصير من وفاته في القاهرة أمس، إثر نوبة قلبية حادّة، منفياً، وبعيداً من سوريا التي أحبّها، فكتب عن واقعها وواقع ناسها دون رياء أو تجميل، منحازاً لبسطائها الذين كانوا دائماً أبطال شخوصه الدرامية، محاولاً كشف مواطن الخلل في منظومتها السياسية والاجتماعية، فـ"رحل الغزال، وبقيت غابة الذئاب" كما نعاه أحد أصدقائه.
الراحل صاحب "حياة مالحة"، "شتاء ساخن"، "الحصرم الشامي" بأجزائه الثلاثة، "ممرات ضيّقة"، "رجال تحت الطربوش"، "يوم ممطر آخر"، "غزلان في غابة الذئاب"، قضى حياته في الكتابة، يبدو من المنطقي أن يجعل كلماته الأخيرة صادمة، مستخدماً "النَفَس الأخير" في السخرية من خوف لاوعي عاشه من حادثة الموت كهاجس يسكنه.
يظهر هذا بوضوحٍ في ما كان ينشره عبر صفحته في أواخر أيامه: "حدقت جيداً في المرآة أعرف هذا الوجه جيداً وأحمله منذ ثمانية وخمسين عاماً، قلت: ظننت أنك قد مت. فردّ بخبث: وأنا أيضاً ظننت أنك على قيد الحياة".
"حقيبة قهر"
فما الذي دفعه لكتابة تلك الكلمات الأخيرة التي ظنها بعضهم "مُزاحاً صباحياً ثقيلاً" نبش أوجاع دفينة كثيرة بتحققه- أي الموت- هل هو الإحساس العميق بالحسرة وخيبة الأمل بحلم عودةٍ لم يتحقق؟. أم الغبطة المنتشية بملاك الموت، بينما يلوّح للحياة مودعاً، وهو بكامل الرضا عن النفس، وبالحرّية التي آمن بها، وعاش لها، ودعا لها في كتاباته -القليلة كمّاً- والعميقة أثراً على الصعيد الدرامي السوري.
ربما كِلا الشعورين تملّكا الراحل فؤاد حميرة وهو يعيش لحظاته الأخيرة، لكنّ "الموت المرّ والدائم" الذي تركه خلفه، الموت الذي لا يوجع الموتى بل الأحياء كما يقول محمود درويش.
هو أيضاً "الموت الطويل" الذي عاشه حميرة كأي سوريٍ آخر، وما يشعر به محبوه وأصدقاؤه الآن. والذي يعيشه الضحايا والناجون على حدٍ سواء ممن خلفتهم الحرب السورية المستمرة منذ عام 2011. متنقلاً منذ خروجه من الاحتجاز السياسي بسبب موقفه من السلطات السورية ودعمه للحراك الشعبي في تموز/يوليو 2013، بين أكثر من منفى (فرنسا، تركيا، وأخيراً مصر).
لكنه قالها بالتأكيد، وهو بكامل التشبّع والوعي بعبارة تولستوي الخالدة: "الشخص الذي لديه فكرة خاطئة عن الحياة ستكون لديه دوماً فكرة خاطئة عن الموت"، مُدركاً جدارة أن يحيا بكامل "حرّيته"، وأن يموت مُؤمناً بها لتمتزج النهاية-الفناء بالأبدية فلا ينفي أحدهما الأخر.
"البقية بحياة سوريا"
بعد انتشار الخبر المؤلم والمفاجئ، نعاه العديد من أصدقائه، ومنهم الكاتب السوري سامر رضوان الذي كتب عبر "فيسبوك": "الفجيعة تأكل قلبك كل يوم، وتزاد اتساعاً ودمعاً كلما رحل واحد من الأصدقاء الجميلين، فؤاد حميرة، أحد أساتذة الكتابة الدرامية في سوريا، وصاحب الأعمال التي لا يمكن للأعمى أن يمرَّ بها دون رفع قبعة الاحترام، يرحل حاملاً في حقيبة قهره سنين الخذلان والمنفى".
وكتب المخرج مأمون البني ناعياً حميرة بالقول: "ما زلنا نودّع بعضنا البعض في هذه الحياة، وداعاً صاحب الأعمال الجميلة، وداعًا فؤاد حميرة".
أيضاً المخرج السوري هيثم حقي نعى الراحل بالقول: "وداعاً فؤاد حميرة. خبر حزين لرحيل مبكر ... وداعاً للصديق والكاتب الموهوب الذي خصّني بواحد من أفضل أعماله الدرامية "الحصرم الشامي" سنفتقدك كثيراً يا صديقي ... وسيفتقدك محبو الفن الدرامي الذي كنت إضافة كبيرة لأفضل كتابه".
وبدوره تحدث المخرج السوري عروة الأحمد، المُقيم في باريس، عن "ألم جمعي" سوري لا يكاد يفتر حتى يعود أقوى، ألم الشتات والاغتراب القسري الذي أطلقت شرارته وفاة فؤاد حميرة قائلاً: "يموتُ السُّوريون في المنافي، يرحلون واحداً تلو الآخر... أولئك الأطفال الرجال، الذين كبروا على غفلةٍ من الدّهر، والذين تحوّلت حياتهم إلى محطّة انتظار. يموتُ أصحابُ الحلم وحيدين، ومدركين أنّ الكلفة الكبرى لذلك الحلم هي أن تتحول حياتهم برمّتها إلى فصل انتظار".
ويقول عروة الأحمد، "أننا كسوريين قد نُذرنا للموت، وكأن حياتنا تنقص شيئاً فشيئاً مع غياب وجه سوري مُبدع أحببناه وأثّر فينا. ننعي بعضنا بعضاً هنا، ثمّ نعودُ بدورنا إلى الانتظار؛ لا لشيء سوى أننا لا نريد أن نغمض عيوننا عن الدنيا قبل التأكّد أن حياة القادمين لن تكون فصل انتظار آخر. وداعاً فؤاد حميرة.. كُتب لنا أن نحيا غزلاناً في غابةٍ للذّئاب".
رحل حميرة بجسده، لكنه انضمّ إلى قافلة لا تنتهي من السوريين الكبار الخالدين، الذين نضيفهم إلى "متحف ذاكرتنا اليومية"، السوريين الحقيقيين الذين نرى وجه بلادنا العظيمة والجميلة رغم خرابها، في ما أبدعوه وتركوه لنا من إرث فني وثقافي، فوداعاً فؤاد حميرة، والبقية بحياة سوريا.