كانت الجلسة بين صديقَين تاريخيَّين، فتشعّبت الأحاديث، واختلط فيها الحاضر بالماضي، والسياسيّ بالثقافيّ، وثورة التكنولوجيا بذكريات الأمكنة والأوقات المشتركة التي أمضيناها معاً. مضى شبه النهار بدون أنْ نشعر بالساعات، ثمّ ذهب كلٌّ منّا في طريق. لكنّي، بدل أنْ يهدأ روعي، خرجتُ في نهاية اللقاء، وقد ازددتُ هجساً بأحوال اليوم والغد والمصير، على رغم اغتباطي بالجلسة التي انعقدت بيننا بعد انقطاع طويل، خصوصاً أنّ الصديق يقيم في الخارج، ويتنقّل بين إقليم وإقليم، لدواعي مهنة المتاعب.
اقترح عليَّ الصديق الصحافيّ أنْ أطرح أسئلتي وهواجسي، وفق التخييل الافتراضيّ، على مطابخ استطلاعات الرأي الوازنة والمحترمة في العالم، وخصوصاً منها الأسئلة والهواجس ذات الصلة بمواضيع حسّاسة وشائكة، من مثل ما يجري في أوروبا التي تنزلق بسرعة جنونيّة نحو مستقبل محفوف بالأخطار، بما ينطوي عليه من شروخ وانقسامات عموديّة في المجتمعات، واحتمالات فوز اليمين المتطرّف في انتخابات أكثر من دولة هناك، لا سيّما بعد التطورات الانتخابيّة والسياسيّة الدراماتيكيّة في فرنسا. ودعاني إلى طرح السؤال عن مفاعيل الحرب في أوكرانيا، والوضع المفخّخ في تايوان، وحروب الشرق الأوسط، وحرب الإبادة في غزّة التي يمارسها الكيان الإسرائيليّ الغاصب، ومشروع الاستيلاء (الإيرانيّ) على لبنان الذي تتسارع خطواته تسارعاً ملحوظاً.
قال لي الصديق الصحافي إن الرجم في غيب الأجوبة خاضع للحسابات ولمصالح الدول، والحسابات والمصالح لا ربّ لها. نصح أنْ يكون سؤالي الأول عمومياً، عن حقّ الشعوب والبلدان – مثلاً - في استثمار خيراتها (دون غيرها)، وحقّها في الحريّة والاستقلال والسيادة وتقرير المصير...
أومأتُ برأسي موافقاً، وافترضتُ للتوّ أنّ المعنيّين باستطلاعات الرأي تلقّفوا السؤال الذي أسأله، وأجابوا عنه افتراضياً وتخييلياً، بشبه إجماع، لكنْ كلٌّ منهم على حدة:
- نحن ندير استطلاعات جادّة للرأي، وهي عندنا لا تخضع للتزوير والتزييف، مهما تكن حسّاسة وخطيرة. معاييرها واضحة، علنيّة، شفّافة، ونتائجها – تالياً – لا غبار عليها من حيث الصدقيّة. وهي، إنْ لم تصحّ مئة في المئة، فإن هوامش الخطأ فيها محدودة، ولا تؤثّر إلّا نادراً جداً جداً في تغيير النتائج المحتملة، عندما فقط تكون الأرقام، أرقام المنافسة "على المنخار".
عال، قلتُ في نفسي، وإنْ كنتُ أشكّ كثيراً في حقيقة هذه الصورة الورديّة للاستطلاعات.
بعضٌ من أحوال جهنّم الأرضيّة.. توليف للفنّان منصور الهبر.
وعلى هذا الأساس، قرّرتُ أنْ أخوض الغمار فوجّهتُ إلى هؤلاء المعنيّين عدداً من الأسئلة، بدأتُها بالسؤال الاستطلاعيّ الآتي:
* ما هو "الموضوع" الأوّل الذي يشغل القوى العظمى في العالم، ومعها القوى الإقليميّة، الموزّعة هنا وهناك وهنالك تحت الشمس؟
جواب الاستطلاع، وقد تلقيتُهُ أيضاً بشبه إجماع:
- يدور "الموضوع" الأوّل حول هدف واحد محدّد، وحول الطريقة التي تتوصّل فيها هذه القوى العالميّة إلى تحقيق هذا الهدف، متمثّلاً – ولا جدال - في الاستيلاء بشتّى الطرق على خيرات البلدان التي لم تُستثمَر بعد، بدون أيّ اعتبارٍ يُذكَر لسيادات هذه الدول.
قلتُ في نفسي، والله، يبدو أنّ شكّي في نزاهة هذه الاستطلاعات ليس في محلّه. فسألتُ:
* وما الطرق الشتّى المعتمدة للحصول على هذه الخيرات؟
- كلّ الطرق، المشروعة وغير المشروعة، القانونيّة وغير القانونيّة. ولا استثناء. ذلك أنّ الغاية (الربح) تبرّر الوسيلة (الاستغلال). وإنْ تكن الوسيلة إبادة شعوب، واستئصال أعراق، وممارسة الرقّ والاستعباد، واعتماد سياسات الأراضي المحروقة (الأرض الخراب)، والاستيلاء بالقوّة العارية على المقدّرات والثروات والمناجم والكنوز الدفينة، في البرّ والبحر والفضاء.
تجهّمتُ بطريقة عاطفيّة للغاية، ثمّ تداركتُ نفسي، فتنحنحتُ، ونفشتُ صدري، معتزاً بهذه الاستطلاعات ودقّتها وصدقيّتها الدامغة، وأكملتُ أسئلتي الفضوليّة، متوقّعاً، أنْ يكون الجواب عن السؤال هذه المرّة، مخالفاً للأجوبة أعلاه.
* لكنّ مبادئ الأمم المتحدة ومواثيقها تقول بغير ذلك تماماً، وترفض رفضاً قاطعاً أيّ عمل من شأنه أنْ ينتهك سيادات الدول وحقوق الأفراد والشعوب في التمتّع بخيرات بلدانهم...
كان الجواب حاضراً تحت إبط مَن يشتغلون في مطابخ استطلاعات الرأي، ولسان حال استطلاعهم ينطق بأفواه أصحاب مواقع النفوذ في العالم، والقوى التي تتحكّم بمراكز القرار، من طريق غلبة السلاح والمال والاقتصاد (الكلام منقولٌ بحرفيّته وبدون تصرّف، من المواقع الرسميّة لاستطلاعات الرأي المعنيّة التي تعكس مواقف واتجاهات مراكز القرار):
- طز بالدول والناس، وبالسيادة والحريّة والحقّ والكرامة والاستقلال، و... بالأمم المتحدة، وبمحكمة العدل، وإلى آخره.
لم أتعجّب من مضمون الجواب بل من فجاجته، و"قلّة تهذيبه". لأنّي، مثل غيري، أرى ما أراه من أحوال العالم، ومن أحوال الدول والشعوب التي تعاني الاستغلال والاضطهاد والقمع والظلم والاستعباد والقهر والعبوديّة والانتهاك والسرقة والنهب والبلطجة، لا سيّما دول العالم الثالث وشعوبه، التي يمَارَس عليها وفيها أبشع ما يمكن أنْ يكون عليه "الوحش البشريّ" من توحّش.
سألتُ: وأوروبا إلى أين، في ظلّ الحرب الروسيّة على أوكرانيا؟
جواب: أوروبا ليست سوى حجارة شطرنج على مائدة الولايات المتحدة، وفي حروب الجبابرة، شرقاً وغرباً. وقد شارفت القارّة العجوز على الوصول إلى الطريق المسدود الذي لا أحد يعرف النتائج المترتّبة على الاصطدام بحائطه. ليس عليك سوى أنْ تعاين ما آلت إليه فرنسا أخيراً، وما ستفرزه انتخاباتها. أوكرانيا هي الآن كبش المحرقة. الدبّ الروسيّ لن يستكين قبل أنْ يشرب الفودكا احتفالاً باستعادة بعض أمجاده الغابرة. وما أدراك إلى أين يفضي الكباش الاقتصاديّ والجيوسياسيّ بين واشنطن وبكين في تايوان وسواها. والحبل على الجرّار...
* هل هذا يعني أنّ الحروب التي تندلع في غير مكان من نواحي الشرق الأوسط، ولا سيّما في لبنان وفلسطين والسودان، تندرج في هذا السياق؟
جواب:
- تقول استطلاعات الرأي، ونتائجها هنا لا تخطئ، وليس فيها التباسٌ أو غموض، إنّ منطقة الشرق الأوسط هي "الأرض المثاليّة" التي تتحالف (موضوعياً) في شأنها القوى والدول ذات النفوذ، على رغم التعارض القائم ظاهرياً في ما بينها، لتحقيق "أحدث" عبقريّات وضع اليد (الإيرانيّة في لبنان) والإبادة (الصهيونيّة لفلسطين وشعبها) ونهب الذهب السودانيّ ("فاغنر" والكرملين وسواهما)، التي تتفتّق عنها الطبيعة البشريّة المريضة. العراق وليبيا كانا خير مثلين. سوريا واليمن أيضاً. والآن، فلسطين على النار، لبنان أيضاً، والطبخة في هذين البلدين على نار شيطانيّة رجيمة (مزدوجة) وحامية!
سألتُ:
* لكنّ العالم "الحرّ" يقول بحلّ الدولتين؛ دولة للفلسطينيّين، ودولة للإسرائيليّين، بكفالة الأمم المتحدة ومجلس الأمن...
أجاب خبراء الاستطلاعات:
- مرحبا عالم حرّ، ومرحبا حلّ الدولتين، ومرحبا ثمّ مرحبتين كفالة الأمم المتّحدة وجمعيّتها العموميّة ومجلس الأمن ومحكمة العدل الدوليّة. فلتسحب، أوّلاً، محكمة العدل هذا المجرم النازيّ نتنياهو من رقبته أوّلاً، ولتحاكمه، بناءً على قرارها الأخير في هذا الصدد. بعدها، لكلّ حادث حديث.
وأردفوا: الحكي شيء، والفعل شيء آخر. نحوٌ من ثمانية وثلاثين ألف قتيل فلسطينيّ في غزّة ورفح والضفّة، وأكثر من عشرة آلاف طفل شهيد، وحضرتكَ تستنجد بالعالم "الحرّ" والأمم المتّحدة. كلّ التظاهرات العالميّة المندّدة بحرب الإبادة في فلسطين لم تغيّر حرفاً واحداً في كتاب الاغتصاب الصهيونيّ. نتائج الاستطلاعات عندنا تنذر بشؤم مستطير...
سألتُ:
* جميع دول العالم تقول بسيادة لبنان واستقلاله وسلامة أراضيه، فماذا تقول استطلاعاتكم في هذا الشأن؟ لبنان لوين؟
- رئيسكم السابق (شكراً له على "اتّفاق مار مخايل" المشؤوم)، قال رداً على سؤال "لوين رايحين": "ع جهنّم". وهو نادراً ما يصيب، وقد أصاب.
"تبلكمتُ" ولم أعد أعرف أنْ أسأل. بل خفتُ إذا طرحتُ المزيد، من أنْ تكون كلّ الأجوبة على هذه الشاكلة من السوداويّة والتشاؤم. أسقط في يدي حقاً، فأغلقتُ باب الأسئلة.
***
لم أنسَ قبل أن يغادر صديقي مسافراً إلى مركز عمله، ولا هو نسيَ، أنْ نستذكر عِبَر التاريخ التي تتلخّص في أنّ الحلول المفروضة من خارج هي دائماً، أو في الغالب الأعمّ، حلولٌ تفرضها الغلبة والمساومات والصفقات والمقايضات وتبادل المصالح، وأنّ الجواب الشافي عن سؤال مزدوج يتعلّق بكيفيّة قلب الطاولة لإفساد طبختَي لبنان وفلسطين المسمومتَين، يجب أنْ يظلّ، على رغم من أهواله ومشقّاته وتحدياته (ولا أريد أنْ أقول: مستحيلاته)، ولا سيّما في ضوء الاختلال الرهيب في موازين القوى لمصلحة المستبدّ الغاشم (في وجوهه وأقنعته المتعدّدة)، يجب أنْ يظلّ الورقة الخفيّة في أيدي أهل الحلم والأمل والصلابة الروحيّة والأحرار من اللبنانيّين والفلسطينيّين. هذه الورقة الخفيّة يجترحها ويكتب حروفها هؤلاء فحسب، الذين لا تغرّهم مناصب وإغراءات ماديّة ومعنويّة، ولا تثنيهم صعوباتٌ وسقطات. وهي مسؤوليّتهم المطلقة.