تشتهر كلمة غوبلز وزير الدعاية النازي: "كلما سمعتُ كلمة مثقف تحسستُ مسدسي"، لتلخص تاريخاً طويلاً من العداء بين الكلمة والرصاص.. المعنى والقوة. السلطة والمعرفة... الحرية والقضبان.
تتبع الكاتب الصحافي عزمي عبد الوهاب فصولاً دامية لهذا الصراع في كتابه "معارك الكتب في الشرق والغرب" (منشورات غاف) وبرغم أنه قدم قصصاً مكثفة وانتقائية لكنّ الكتاب يزيد عن 320 صفحة.
بالنظر إلى عنوانه فإن كل المجتمعات شرقاً وغرباً خاضت صراعاً ضد الكتاب، وضد العقول الكبيرة، وامتلكت دائماً جهازها الرقابي الذي يعمل علناً أو في الخفاء.
كأنه صراع أزلي تحدد كل سلطة من خلاله حدود المعرفة المسموح بها، والخطوط الحُمر التي تقف عندها حرية التعبير وحرية الشخص نفسه. فنحن إزاء ظاهرة معقدة تتدخل فيها الموضوعات والمسارات والتابوهات. وبرغم مأساوية التفاصيل يُحدث أن يصبح الأمر هزلياً، مثل مطالبة نواب في البرلمان المصري بإحراق كتابي "ألف ليلة وليلة" و"الفتوحات المكية"، أو مطالبة شخصيات كويتية بارزة بعدم منح تأشيرة دخول لجلال الدين الرومي!
يشير عبد الوهاب في مقدمته إلى تعريف الرقابة بأنها "قيام الهيئات المسؤولة بمنع إنتاج وتوزيع ونشر وعرض أي أعمال، من الممكن أن تتضمن معلومات ومواد خطيرة وضارة وملوثة، وعادة ما يتم ذلك باستخدام طرق وأدوات تخصص للقيام بهذه المهمة"، فما دام هناك تنوع كبير بشأن ما يُحتمل منعه، فإن طرق المنع والعقاب أيضاً متنوعة للغاية في مأساويتها وطرافتها. فنحن نتحدث عن وحش بألف وجه.
إنهم يراقبونني
استعمل ستالين قبضته الحديدية لتجريف الأدب الروسي من المواهب الحقيقية، ومن الطرائف أن الشاعر يوسف برودسكي (الحائز نوبل في ما بعد) قُدم إلى المحكمة بتهمة الصعلكة وأنه "عالة على المجتمع"، وعندما سأله القضاة عن عمله أجاب بأنه كاتب ومترجم فاستهزأوا به وسجنوه خمس سنوات، وكان ضمن عقوبته تكليفه بنقل روث البهائم من الحظائر.
فيما اعتاد رجال البوليس حضور ندوات ماياكوفسكي، وعندما سألته أمه عن سبب غموض شعره أجاب: "إذا كتبت كل شيء بوضوح، فلن أستطيع العيش في موسكو، بل في مكان ما في سيبيريا، فهم يراقبونني"، ويقصد بمجاهل سيبيريا السجن والإخفاء.
ولكنها تدور!
لعل الواقعة الأشهر التي ألهمت الشعراء والمسرحيين تعود إلى إيطاليا في عصر النهضة، حين اصطدم غاليليو مع الكنيسة في روما لأنها اعتبرت كلامه عن دوران الأرض "هرطقة"! وحين استدعاه مكتب البابا قال: "إنني ألعن الأيام التي كرّستها للدراسة"، دانت الكنيسة الرجل وصادرت كتبه، وأقر بأنه على خطأ، وحين خرج منكسراً من قاعة المحكمة قال "ولكنها تدور"!
لا شك بأن اختراع غوتنبرغ للطباعة عام 1445 كان واحداً من أعظم الاختراعات البشرية وبداية تشكل عصرنا الحديث، لأنه سهّل طباعة الكتب ووصول المعرفة إلى كل مكان على وجه الأرض، وكسر هيمنة رجال الدين عليها. لذلك وقفت الكنيسة في فرنسا ضد الاختراع واعتبرت طباعة الكتاب المقدس بالآلة بدلاً من نسخه بأيدي الرهبان خطيئة ومن الكبائر.
كما لا ننسى معارك فولتير الشهيرة ضد رجال الدين التي أدت إلى نفيه وتزوير قصائده وتأجير "بلطجية" لتأديبه! عدا محاكمة رواية "مدام بوفاري" لفلوبير واتهامها بالبذاءة والانحلال.
في 7 تموز/ يوليو عام 1857 تلقى وزير الداخلية الفرنسي تقريراً يفيد بأن ديوان "أزهار الشر" لبودلير "يتضمن انتهاكاً للدين والأخلاق"، ووجد الشاعر نفسه في المحكمة التي غرمته 300 فرنك وحذف ست قصائد من الديوان.
إلغاء المسرح
لم تكن الحال في إنكلترا بأفضل من فرنسا وإيطاليا، حيث صدر مرسوم الأساقفة عام 1559 الذي يجرّم طبع التاريخ الإنكليزي إلا بعد الحصول على إذن من مجلس البلاط التابع لجلالة الملكة. وحين نجحت الطائفة البيوريتانية في خلع الملك تشارلز الأول بهدف تأسيس نظام جمهوري كان من أوائل قرارتها إلغاء المسرح باعتباره ضرباً من المجون والانحلال.
كما ظهر كاتب آفاق يُدعى إدموند كيريل كان يسطو على نصوص الآخرين وتعرض للمحاكمة أكثر من مرة، حتى حُكم عليه بتثبيته في آلة خشبية لمدة ساعة كل يوم، على أن يقوم الجمهور بقذفه بالبيض والطماطم.
وحين نشر د. هـ. لورانس روايته الشهيرة "عشيق الليدي تشاترلي" 1928، منعت إنكلترا تداولها ونشطت الجمارك لمصادرة النسخ برغم الإقبال الشديد عليها، ولم تنشر كاملة في أميركا إلا عام 1959.
ففي أميركا وإنكلترا خلال القرنين التاسع عشر والعشرين تعرضت روايات كثيرة للمنع والمصادرة ومحاكم التفتيش منها: "جود المغمور" لتوماس هاردي، و"عوليس" لجيمس جويس، و"الغداء العاري" لوليم بوروز، و"مدار السرطان" لهنري ميلر.
وربما يكون "أوراق العشب" لوالت ويتمان أشهر ديوان شعري صدر في أميركا في القرن التاسع عشر، ومع ذلك اتُهم بأنه "أدب إباحي" وطالب القاضي بحذف قصائد منه.
سجالات فكرية
لو تأملنا رحلة الرقابة في الغرب نلاحظ أن معظم الأعمال الممنوعة باتت من كلاسيكيات الأدب العالمي، وكانت قرارات المنع والتقييد تسقط في غضون سنوات قليلة، مع إمكانية اللجوء إلى القضاء. فماذا عن طبيعة الرقابة في الشرق؟
يخصص عزمي عبد الوهاب ثلثي كتابه للشرق، فيحكي عن فرض الرقابة على المسرح مع بداية ظهوره في عصر الخديوي توفيق.
في ما يخص الكتب، وإضافة إلى توحش الرقابة، اشتهرت معارك وسجالات فكرية بين المبدعين أنفسهم، ومن ذلك اختلاف يوسف إدريس مع توفيق الحكيم حول هوية المسرح المصري والعربي، ومعركة طه حسين والمازني حول ديوان "أنات حائرة"، وطالما كان طه حسين طرفاً في معظم معارك كتبه ومنها "في الشعر الجاهلي" و"حديث الأربعاء" و"على هامش السيرة"، وممن هاجموه الروائي فتحي غانم الذي اتهمه بأنه "عقبة ضخمة في طريق القصة" بسبب تقليد البعض له وعدم تجاوزه. وقبيل رحيله بسنوات قليلة نشر سكرتيره الشخصي الذي رافقه لسنوات طويلة كتاباً أثار عواصف وزوابع بعنوان "طه حسين الذي لا يعرفه أحد" بزعم تحطيم هذا الصنم. كما دارت معركة ممتدة لشهور بين طه حسين وأحمد أمين حول دور النقد، وسبق لطه أن خاض معركة ضد الرافعي والمنفلوطي.
يحفل الكتاب بإضاءات على معارك مبدعين ومفكرين كبار منهم: سلامة موسى، ونجيب محفوظ، ولويس عوض، وزكي نجيب محمود، والشيخ محمود شاكر، وإحسان عبد القدوس، والعقاد، وصلاح عبد الصبور، والزهاوي، وعبد الرحمن بدوي.
وقطعاً لم ولن تنتهي معارك المثقفين ولا الرقابة على الكتب؛ لأن الناس تخشى "الحرية" و"المعرفة"، وتميل لألفة القيد. فالحرية أيضاً مخيفة قد لا تقوى الشعوب على دفع أثمانها.