انتشر قبل أيام عبر مواقع التواصل الاجتماعي نبأ وفاة المفكر وعالم اللسانيات الأميركي الشهير نعوم تشومسكي (95 عاماً). وقبل أن يُدرك كثيرون ممن نعوه "فايسبوكياً" أن الخبر كان مجرد شائعة، تم تناقله من دون تمحيص أو إدراك، ناشرين مطولات ومدائح في شخصه، وكأنهم "يستعجلون رحيله".
الحقيقة أنّ تشومسكي يرقد اليوم في مستشفى في مدينة ساو باولو البرازايلية إثر إصابته بسكتة دماغية حادة أدت، وفقاً لوكلات أنباء دولية، إلى معاناته صعوبة في التحدث نتيجة تأثر الجانب الأيمن من جسده، حيث يزوره يومياً طبيب أعصاب ومعالج النطق واختصاصي الرئة.
وفي هذا السياق، تحدثت زوجته فاليريا تشومسكي وفقاً لوكالة أسوشتيد برس أن زوجها موجود حالياً في مستشفى في ساو باولو، بعدما اصطحبته على متن طائرة إسعاف مع ممرضتين، وأنها تنتظر تعافيه حتى يتمكن من السفر بسهولة أكبر من الولايات المتحدة. ونوهت أيضاً بأن تشومسكي - رغم معاناته الحالية - لا يزال يتابع الأخبار المأساوية الآتية من قطاع غزة، وغالباً ما يرفع ذراعه اليسرى كعلامة احتجاج ورفض للمجزرة المستمرة بسبب عدم قدرته على الكلام.
"رائد اللسانيات الحديث"
يعد تشومسكي، المفكر اليساري المُناهض لسياسات بلاده الخارجية ونظامها الرأسمالي، والذي أصدر أكثر من 150 مؤلفاً في اللغة والفلسفة والسياسة والإعلام، هو الأب المؤسس لعلم اللسانيات الحديثة، وتُعتبر نظريته "النحو التوليدي" من أبرز إسهامات العلوم النظرية اللغوية في القرن العشرين التي أحدثت ثورة في الطريقة التي نفهم بها مسألة اكتساب اللغة ومعالجتها.
إضافة إلى مكانته العلمية الرفيعة كأستاذ فخري في اللسانيات في قسم اللسانيات والفلسفة في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، يتمتع تشومسكي بمكانة فكرية ونضالية كبيرة لدى كثيرين حول العالم، باعتباره مثقفاً أكاديمياً حراً يرفض سياسات ما يسميه "الليبرالية المتوحشة" لبلاده وادعاءتها المزيفة وحروبها الخارجية، وتحديداً حرب العراق سنة 2003 التي اعتبرها "أسوأ جريمة في القرن العشرين".
ولعلّ أقوى تصريحاته هو عدم اعتبار أميركا "ضحية" خلال أحداث 11 سبتمبر لكون الولايات المتحدة دفعت ثمناً باهظاً لإرهاب غذّته ونشرته في العالمين الإسلامي والعربي، وهذا ما أورده عبر كتابه "تشريح الإرهاب".
كذلك، فضح في كتابه "مثلث المصير: الأميركيون وإسرائيل والفلسطينيون" أوهام الكثيرين في الغرب من القراء حول أهداف وعواقب الدعم الأميركي لإسرائيل، كاشفاً فيه كيف تُصنع "صورة إسرائيل الضحية" التي يُغذيها الوهم والوعي الزائف والتلاعب الإعلامي.
لقد زار تشومسكي غزة في أكتوبر/ تشرين الأول 2012، معلناً تضامنه مع أهلها المحاصرين ومنتقداً السياسات الإسرائيلية التي ستنتهي بزوال الكيان قائلاً: "تختار التوسع على حساب الأمن، وتقود إلى انحطاطها الأخلاقي وعزلتها ونزع الشرعية عنها، الأمر الذي سيؤدي إلى دمارها في نهاية المطاف، وهذا أمر غير مستحيل".
حركة عنصرية انتهازية
لطالما سخر تشومسكي بتهكم واضح من المشروع الغربي لتوطين اليهود في أرض فلسطين التاريخية بالقول: "أخبرك بشيء مثير للاهتمام حول الثقافة الغربية. عندما ذهبوا إلى معسكرات الاعتقال وشعروا بالذهول، لم يقولوا: "دعونا ننقذ الناجين"؛ قالوا: "دع شخصاً آخر يدفع ثمن إنقاذ الناجين".
بالنسبة لتشومسكي، لا شيء صادم في السلوك الأوروبي الاستعماري في يخص "دولة إسرائيل": "جاء المستوطنون الأوروبيون إلى أرض أجنبية، واستقروا هناك، ارتكبوا إمّا إبادة جماعية ضد السكان الأصليين وإما طردوا منها. ولم يخترع الصهاينة شيئاً جديداً في هذا الصدد".
وقف تشومسكي في كتاباته وآرائه النقدية الحادة التي كلفته تهمة "معاداة السامية" على فضح السردية الصهيونية، حيث يلخص صورته عنها كحركة عنصرية واصفاً إياها بـ"الانتهازية" في علاقتها مع داعميها الغربيين وعلى رأسهم الولايات المتحدة.
غالباً ما تتبنى الحكومات الإسرائيلية استراتيجيات الإرهاب والطرد. وعندما لا تسمح الظروف بذلك، فإنها تستخدم وسائل أكثر ليونة. يقول تشومسكي: "قبل قرن من الزمان، كان الجهاز ينصب بهدوء برج مراقبة وسياجاً، وسرعان ما سيتحول إلى مستوطنة، كـ"حقائق على الأرض".
وحين أراد أن يصف رئيس الوزراء الإسرائيلي أثناء محاضرة له في معهد ماساتشوستس في مايو/أيار 2014، قال عنه إنه "العنصري الرجعي الذي يدير إسرائيل الآن". وأوضح حينها، أن السبب الرئيس في مأساة الفلسطينيين الدائمة هو أنهم لا يحظون بأي دعم دولي لسبب وجيه، كونهم لا يملكون الثروة أو السلطة، وبالتالي ليس لديهم حقوق. مؤكداً أنّ هذه هي الطريقة التي يعمل بها العالم، تحديداً في بلاده. عالمٌ يحكمه الأقوى، فقط لا غير!