في المسلسل السوري الشهير "الفصول الأربعة"، اختار الراحل حاتم علي لإحدى الحلقات عنوان أغنية العندليب الأسمر "في يوم، في شهر، في سنة". وفيها صوّر المخرج "النكبة العاطفية" التي خلّفها رحيل عبد الحليم حافظ (1977-1929) في نفوس من أحبوه، وعشقوا صوته، وتأثروا به كأيقونة فنية تعود لما جرت تسميته "الزمن الجميل"، وكان حافظ أحد أركان ثالوثه الكبير بعد كوكب الشرق أم كلثوم والموسيقار محمد عبد الوهاب.
تتناول الحلقة - بقالب لا يخلو من الطرافة- الصدمة التي أثارتها شائعة زواجه من الراحلة سعاد حسني، وتعامل شخوص العمل- النساء منهم تحديداً- مع العندليب، كأحد أفراد العائلة الذين رحلوا.
هكذا تحلَّ مناسبة يوم رحيله في الـ30 من آذار/ مارس كـ"عزاء مستعاد" كل عام إسوة بكل عشاقه، تشعله أغنياته ومشاهد الحب التي جسّدها في أفلامٍ كرّسته "أيقونةً للرومنسية" في زمانه.
يكفي أن نعلم أنّ ثمة من أقدمن على الانتحار بعد وفاته، إحدى معجباته ألقت بنفسها من الشرفة لأنها لم تتحمّل صدمة رحيله عن العالم من شدّة تعلّقها به وبأغانيه.
وكما ذكرى رحيله، تعود ذكرى ميلاد عبد الحليم حافظ في شهر يونيو/ حزيران لتكتسي بطابع رثائي، فنستذكر أحد رموز الفن والموسيقى العربية، وهو الذي ارتبطت حياته القصيرة نسبياً (47 عاماً) بكثيرٍ من المتناقضات مثل اليُتم والطفولة المُعذّبة فالنجاح والنجومية.
عبدالحليم حافظ هو وليد المأساة لكونه خسر والديه وهو في طفولته المبكرة قبل أن يعيش صريع الألم والمعاناة بسبب أصابته المزمنة التي رافقته منذ الصغر بمرض البلهارسيا. وقد أجرى عبدالحليم أكثر من 61 جراحة خلال حياته، لكنه حقق في خط موازٍ لهذه الرحلة الحزينة مجداً فنياً امتدّ حتى اللحظة الأخيرة في حياته، وما زال حاضراً حتى الآن.
اتخذ عبد الحليم شبانة لقب "حافظ" تيمناً بالمذيع حافظ عبد الوهاب، كونه من أجازه ليكون مطرباً إذاعياً بعد محاولات عدة فاشلة، مؤكّداً أنه "صوت المستقبل". وفي وصف شريك رحلته الموسيقار محمد الموجي له، قال عنه: "صوت عذب، وأحاسيس صادقة وليدة حياة صعبة، فمن رحم فقر ويتم وفقد ولد إبداعه، وسيظل محمياً من غارات الزمن".
بدوره كتب إحسان عبد القدوس عندما سمع صوته للمرّة الأولى أنه: "الصوت الجديد الذي لم يسمعه أحد من قبل أبداً".
"ابنك يعيط يا عبدو"
شكّلت أغنية "صافيني مرّة" من كلمات: سمير محجوب، في جملها اللحنية النمط الشرقي بالإيقاع الغربي، وكلماتها الرشيقة القصيرة في مدة لا تتجاوز الـ6 دقائق، نمطاً غنائياً جديداً على الأذن العربية حينها، قبل أن تُعدّ لاحقاً إحدى أهم محطات التجديد الموسيقي في العصر اللاحق.
تمثل الأغنية البداية الفنية الحقيقية له وللموسيقار محمد الموجي، الأغنية التي لم تلق استحسان الجمهور أٌثناء تأديته لها في أغسطس/ آب سنة 1952 في الإسكندرية بحيث تمّ "رشقه بالطماطم" وقتها.
لكنّ عناد حافظ دفعه لتكرار غنائها في يونيو/ حزيران من عام 1953، خلال احتفالات الثورة في مصر، لتحقق الأغنية النجاح المطلوب، فكانت الانطلاقة الفعلية لفنان سيعمّر طويلاً في الذاكرة.
وكحال حافظ مع "صافيني مرّة"، كانت الشهرة الكبيرة التي اكتسبها لاحقاً مليئة بالصراعات والمواقف المحرجة، سواءً مع زملائه في المهنة أو الجمهور، لا سيما في أخر أغنياته "قارئة الفنجان" التي قدّمها له نزار قباني ولحنها الموجي بدوره. ففي أثناء أدائه لها في مسرح الترسانة بالقاهرة ربيع عام 1976، حيث ملأ الجمهور القاعة بفوضى التصفير والرقص، واستقباله بعبارة "ابنك يعيط يا عبدو".
"فوضى مفتعلة؟"
رغم محاولاته لتهدئة الوضع، واستيعاب ما يجري إلّا أن حليم فَقَد أعصابه ليردّ على جموع المُصفّرين بعد أن توقف عن الغناء بالقول: "بس بقى، أنا أعرف أصفّر وأزعق زيكم"، وراح يصفّر لهم. وتعرّض بعد ذلك لحملة إعلامية مناهضة له وصفته بـ"التكبر".
يشير بعضهم أن ما حدث لحافظ هو شكل من أشكال التنافس الفني مع بليغ حمدي ووردة الجزائرية، وأنه اتهمهم بافتعال الفوضى وتخريب حفله على خلفية رفض حليم لحن أغنية "هو اللي اختار" لبليغ حمدي، وطلب تعديلات عليه، رفضها الأخير، فقرّر عبد الحليم غناء أغنية قارئة الفنجان التي لحنها الموسيقار محمد الموجي. وأعطى بليغ اللحن لهاني شاكر في ما بعد. ذلك الاتهام نفته وردة لاحقاً في أحد الحوارات التلفزيونية من دون أن تُنكر حالة التنافس القائمة.
ويذكر آخرون، أن السبب الرئيس في تلك الأحداث كانت "غيرة" وزير الإعلام المصري الأسبق صفوت الشريف بسبب علاقة عبد الحليم القوية بسعاد حسني وتهديدات صفوت لها على خلفية عملها في جهاز المخابرات. وخشية صفوت من أن يحكي حليم للرئيس المصري أنور السادات هذه الحكاية والمضايقات التي يُمكن أن تتعرّض لها، فكانت "الفوضى المفتعلة" رسالة تهديد لحليم.
وقد حُكي كثيراً عن قصة حليم وسعاد، وما زالت إلى الآن من الأسرار التي يختلف عليها الجميع. ولكن عقب موت السندريلا، الذي قيل إنه قتل متعمّد وليس انتحاراً كما أشيع، عادت علاقة السندريلا والعندليب الى الواجهة، وتردّد في الأوساط أن ذاك "المسؤول الكبير" كان وراء مقتلها في لندن لأنها أفشت بعض أسرار مذكراتها لأحد الصحافيين المُتعاملين مع الأمن.
وبحسب جيهان عبد المنعم شقيقة السندريلا في كتابها "سعاد.. أسرار الجريمة الخفية"، فإنّ تلك العلاقة أفضت إلى زواجٍ دام 7 سنوات سراً بين عامي 1960-1967، كما كشفت ونشرت وثيقة الزواج التي اعتبرها أقرباء حليم مزيفة.
أما الإعلامي المصري الراحل مفيد فوزي فكان يُصرّ على توكيد الزواج، وأنه كان شاهداً عليه. وفقاً لفوزي فقد رفض حليم إعلان زواجه في ذلك الوقت بسبب فنه، وأنه أخبر سعاد حسني أنه مريض ولا يريد أن تتحول لـ"ممرضة له"، لكنها أصرّت كونها تحبه، وأنها سوف "تجلس تحت قدميه". ربما يبقى الزواج "لغزاً غامضاً"، ولكن المؤكّد، أن أغنيات عبدالحليم العاطفية ستبقى راسخة في الذاكرة العربية.