النهار

الجيل الأدبي... محاولة للفهم أم أداة للإقصاء؟
يسري عبدالله
المصدر: القاهرة- النهار العربي
لعلّ من أقسى ما تعانيه حياتنا الثقافية والأدبية محاولات الإقصاء والاستبعاد الممنهج التي قد تمارسها جهات ضدّ جهات أخرى، والأدهى أن ذلك قد يُمارس من خلال ذرائع تدّعي الموضوعية
الجيل الأدبي... محاولة للفهم أم أداة للإقصاء؟
صورة تعبيرية
A+   A-
 
 
لعلّ من أقسى ما تعانيه حياتنا الثقافية والأدبية محاولات الإقصاء والاستبعاد الممنهج التي قد تمارسها جهات ضدّ جهات أخرى، والأدهى أن ذلك قد يُمارس من خلال ذرائع تدّعي الموضوعية، فتناور من خلالها، وتحيل المعنى إلى نقيضه. وتستبعد الفنان لمصلحة ظلّه.
 
ومن المفاهيم المتداولة في حياتنا الثقافية والأدبية العربية بلا تدقيق وتمحيص، مفهوم "الجيل الأدبي"، وهو بداية مفهوم أكثر منه مصطلحاً، والتباين بين المفردتين لا مجال لذكره الآن.
 
يستخدم المنظّرون وبعض النقاد الأوروبيين مفهوم الفريق الأدبي، فضلاً عن استخدام هذا المفهوم الملتبس لدينا في التلقّي العربي، وأعني مفهوم الجيل الأدبي.
 
ففي أوروبا مثلاً، كان هناك ما يسمّى جيل 98 من المثقفين الإسبان، وقد حوى مجموعة من الكتّاب، والشعراء الإسبانيين الذين تأثروا بالأزمة الأخلاقية، السياسية، والثقافية التي ضربت إسبانيا جراء الهزيمة العسكرية في الحرب الأميركية- الإسبانية، وما نجم عنها من خسائر في بورتوريكو، وكوبا، والفيليبين، وغيرها، في العام 1898.
 
وقد يخلق الجيل في بعض الأحيان تياراً أدبياً في مرحلة محدّدة، والتيار الأدبي مصطلح راسخ في بنية الثقافة العالمية، ويشير إلى اتجاه عام يسيّر الأذهان نحو فكرة بعينها، وهو عبارة عن طغيان ذوق أدبي محدّد في فترة محدودة، أو ممتدة. 
إنه أشبه بهيمنة جمالية على فضاء الكتابة في لحظة ما، ويراه الناقد والمنظّر الروسي "جيرومونسكي" تعبيراً عن ظاهرة عالمية، مرتبطة بالتطور العالمي، وحركة تبادل الآداب بين الثقافات المختلفة.
 
إنّ الروح الديموقراطية التي تتسمّ بها الكتابة تجعلها بعيدة من المحاصصة، والنبذ لمجرد الاختلاف الفكري، أو ثقل الدم الشخصي، أو الأهواء الفردية التي تقصف بالعدالة الثقافية من جهة، وتهيل التراب على المنجز الإبداعي لكتّاب وفنانين أحياء أو راحلين تحت وهم الاستيلاء على المعنى، من جهة ثانية.
هذا الوهم الذي قد يلاحق البعض ممن يعتقدون أن في قدرتهم المنح، والمنع، وهذه البديهيات على الرغم من اتضاحها إلّا أنها تسمّم البئر على أصحابها، وتضيف إلى حياتنا الأدبية والثقافية العربية مشكلات جديدة لا حصر لها. يبقى كل شيء صنواً للجدارة، والنراهة، وحدهما قادران على فك الارتباط بين الذاتي والموضوعي، والانحياز الكامل للفن، والإبداع ولا شيء سواهما.
 
لا بدّ وأن نعترف بأن لدينا شيئاً من الكسل العقلي، وهذا ما يجعلنا نرى الظواهر من منظورات أحادية، وضيّقة،حيث ينطوي الوعي لمفهوم "الجيل الأدبي" لدينا على قدر من "الآلية"، حيث يتعامل البعض مع فكرة "الجيل" بوصفها مفهوما كمياً، وهذا أمر غير منهجي، على اعتبار أن الجيل مفهوم كيفي، ينبئ عن انعطافة (ثقافية/ تاريخية) محدّدة، يؤرخ بها لما قبلها ولما بعدها. 
 
على هذا، فالجيل يعني به مجموعة من المبدعين الذين يجسّدون القيم الفكرية و الجمالية لمرحلة معينة، لها خصائصها المحدّدة، والممثلة في كتاباتهم، فالجيل ليس مرتبطاً ارتباطا آلياً بالتتابع الزمني. 
إنما هو ابنٌ للحظة فارقة تُملي اشتراطاتها التاريخية والأدبية المعينة، والتي تحتاج إلى من يعبّر عنها، "إنه تجربة ورؤيا"، بتوصيف الناقد المصري غالي شكري، و"ليس المقصود وحدة التجربة أو وحدة الرؤيا، وإنما المقصود هو التجربة الرئيسية (الثورة- الهزيمة- الحرب...). 
وكلاهما يتنوّع ويتعدّد ويتجلّى في مئات التجارب والرؤى. وعلى هذا، فجيل الستينات في الرواية المصرية، على سبيل المثل، هم أولئك الكتّاب الذين تشكّل وعيهم في ظل السياق السياسي والثقافي المتحول والمحتدم خلال مرحلة الستينات وما قبلها، وبدأت تباشير نصوصهم في هذه الفترة، وكانوا أبناء لمناخات سياسية وثقافية لها طبائعها المحدّدة. 
وقد يشترك بعض أبناء الجيل الواحد في بعض السمات والملامح العامة، ولكن هذا لا يعني نفي الخصوصية عن كل كاتب منهم، أو وضع ستار على تجربته الخاصة، بدعوى التجربة الأدبية العامة التي تظلل المرحلة. 
 
ثمة اختلاف مثلاً بين كتابات كل من جمال الغيطاني ومحمد البساطي وبهاء طاهر وعبدالحكيم قاسم وإبراهيم أصلان وخيري شلبي ويوسف القعيد وصنع الله إبراهيم، على الرغم من انتمائهم للجيل ذاته.
 
 
 
وقد يستخدم بعضهم مفهوم الجيل الأدبي لتعميم مقولات نقدية جاهزة، أو تصورات معرفية وجمالية مستقرة في الوعي العام، مثل القول بأيديولوجية روايات جيل الستينات على إطلاقه، على الرغم مثلاً من التباين بين سردية التفاصيل الصغيرة التي تهيمن على فضاء الكتابة عند إبراهيم أصلان، أو تغليب منطق الحكاية على كل ما عداه لدى خيري شلبي وعوالم ما بعد القاع التي تميزه على نحو خاص. وهكذا سنجد لدى كل كاتب منطقة جمالية وموضوعية تخصّه، وزاوية نظر تحدّد علاقته بالعالم، مهما كانت المشتركات بينه وبين آخرين منتمين إلى جيله.
 
وقد يتكرّر الأمر ذاته مع جيل السبعينات في الشعر المصري الذي رفد الشعرية العربية بنَفَس جديد حينذاك، وقد شهد تنويعات متعددة، وتصورات جمالية مختلفة، رغم الانتماء للجيل الشعري الواحد، بين كل من (حلمي سالم، رفعت سلام، حسن طلب، جمال القصاص، أمجد ريان)، وغيرهم.
 
وقد يصبح استخدام مفهوم الجيل الأدبي أداة للغمز واللمز، وآلية للاستبعاد؛ على غرار محاولات البعض إهالة التراب على منجز جيل الثمانينات في الشعر المصري، وهو الجيل الذي قدّم عطاءً مختلفاً لقصيدة النثر المصرية والعربية، ودشنّ وجودها في المحيط الإبداعي، وكان من أبرز أيقوناته الشاعران الراحلان: محمود قرني، وفتحي عبدالله، ومعهما شعراء آخرون مثل: إبراهيم داود، وعاطف عبدالعزيز، وغادة نبيل، وغيرهم.
 
إن الإبداع كان وسيظلّ في أبسط تعريفاته الإتيان بشيء على غير مثال سابق؛ ولذا فالمغامرة الجمالية والأصالة الفكرية، وهي تعني هنا أن يتأسس النص على نفسه، ولا يتعيّش على نصوص الآخرين، هي أهم ما يمكن أن يسم النص الأدبي، وهذه الملامح لا تتوقف على جيل بعينه، ولا تنحصر في مجموعة أدبية محدّدة، ولكنها صنو الإبداع الفردي، الذي يحمل منطقه الجمالي الخاص، حيث الإبداع تجربة فردية مغامرة، ومغايرة للسائد، والمألوف.

اقرأ في النهار Premium