تناول الإعلام العربي السياسي والثقافي جوانب من مواقف المؤسسات الغربية- الرسمية منها والحرّة- من العدوان الإسرائيلي على غزة وتطوراته الدموية التخريبية منذ "طوفان الأقصى". لم نتوان على أكثر من مستوى في وصف وتشريح هذه المواقف، وخصوصاً نقدها وإدانة انحيازها لإسرائيل وإنكارها أو تبخيسها لحقوق الشعب الفلسطيني وما يتعرّض له في غزة، وخلا متابعة ردودِ فعلٍ رسمية وتظاهرات التضامن في العواصم العربية في الأسابيع الأولى للعدوان، وصدور بيانات احتجاج متفرقة لكتّاب ومثقفين، بقيت أغلبية هؤلاء صامتة ومنكفئة، وهذه الفئة منصرفةٌ لأعمالها المعتادة قبالة آلة إسرائيلية لا تتوقف عن الإبادة والتدمير.
لم يكن استسلاماً، فالنُّخب الفكرية العربية الواعية، أو ما تبقّى منها، أحسّت بعجزها وهيمنة الأقوى منها تجاه ما يحدث، قبل هذا إزاء المعضلات الداخلية في بلدانها، فضلاً عن التضييق المفروض في مجال الحرّيات في محيطها، لذلك جاءت المواقف غالباً فردية، وافتقرنا إلى البيان الجماعي المعبّر عن كتلةٍ بخطّ إيديولوجي ورؤيةٍ فكرية واضحة من عدوان بلا نظير.
هذا النقص والغياب سعت جماعة من المفكرين والأدباء في المغرب إلى تداركه بإعلان الموقف والرأي السديد كما تراه مناسبًا ومستقلًا ينبغي أن يُسجّل ويُحسب تاريخياً للنخبة الفكرية المستنيرة لهذا البلد المعروف باقتناعاته التقدمية والتزامه بالقضايا القومية والإنسانية الحرّة.
هذا العمل تكفّلت به مجلة "النهضة" المُحكّمة (الفكرية والنهضوية العامة، مديرها الأكاديمي الاقتصادي نور الدين العوفي)، أهميتها أنها تُعنى بالتأصيل النظري والتجديد الرؤيوي والحداثة والديموقراطية والتنمية والعدالة.
العدد التاسع والعشرون مخصّصٌ لتيمة واحدة: "نحن وطوفان الأقصى" عنوان جامع بدلالتي: الأولى، نحن، أي شخصية المجلة المتمثلة في الهوية الفكرية والمذهبية للمشاركين من أعضاء تحريرها ومن استُكتب مُختارًا لموضوع؛ والثانية: طوفان الأقصى، المعنيّ بالمقاومة وأبعادها الاستراتيجية.
لم يكن الاختيار سهلًا لعدد المساهمين المتحمسين وللقضايا المطلوب درسها، شرطه الأول تجنّب الانفعال، والشّعارية، والبلاغة النضالوية، وإن بمحاولة لَجْمِها رغم شراسة العدوان الإسرائيلي يصعب حصرها وتقييمها بمفاهيم ومقولاتٍ ومنهجياتٍ عقلانية لا تنازل عنها يحكمها نهج المجلة، والسمعة الأكاديمية والأدبية لأقلام القضايا المطروقة.
لبلوغ هذه الغاية، تحدّد الموقف والتحليل في أبواب أربعة: الأول، هو المدخل بعنوان عام: قراءات في طوفان الأقصى، هو أقرب إلى الوصفي للحدث ومقاربة أوله فعلًا وردّ فعل، من بين أقلامه أدباء ودارسون مرموقون: محمد الأشعري (فخ الحرب)؛ سعيد يقطين (السردية الصهيونية)؛ كمال عبد اللطيف (المقاومة في مواجهة الشرّ المطلق)؛ عبد القادر الشاوي (طوفان الأقصى ورمزية الجهاد).
الباب الثاني يتناول الموضوع الحساس مثار الجدل: "الغرب في مختبر طوفان الأقصى" استهلّه الأكاديمي نور الدين العوفي بمقالة "طوفان الأقصى، إسقاطٌ للحساب الاقتصادي"، ثم من بين عديدين المفكر علي أومليل: "الدولة السائبة"؛ والأستاذ الباحث عبد الإله بلقزيز بدراسة: "غرب في ميزان 7 أكتوبر"، في الخط نفسه كتب الباحث إدريس هاني عن "فلسطين ونخبة الفكر الغربي"، وكتبتُ مقالة: "الغرب ونحن أو خداع المرجعية".
نطلّع على جزء من رأي النخبة الفكرية والسياسية المغربية في الباب الثالث المخصّص لموضوع: "الوطني والقومي في قضية فلسطين". يستهلّه الأكاديمي الاقتصادي فتح الله ولعلو رجل السياسة الاشتراكي بمقالة: "حول النزاع الإسرائيلي الفلسطيني: حكاية جَوْر"؛ والباحث السياسي عبد العلي حامي الدين في: "محاولة لفهم السلوك الغربي"؛ عمر الزيدي عالج المطلب المُلحّ: تداعيات طوفان الأقصى ورهانات الدولة الفلسطينية المستقلة". وانخرط عضو تحرير المجلة عبد الجليل طليمات في مناقشة "جداليات طوفان الأقصى وما بعده".
حمل هذا المقال البيان أسس فهم النخب المغربية الملتزمة من مشارب مختلفة، لنوع علاقتها بالقضية القومية، باعتبارها قضية تحرير ونضال ضدّ الصهيونية بوصفها تابعة للأمبريالية. وبحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره والاعتراف به ليقرّر وحده وسائل تحرير وطنه.
لا يمكن المفاضلة ولا يجوز بين المساهمات الغنية لهذا العدد التاريخي لرصانتها وسدادتها كلها وفحصها للوضع الراهن لقضية التحرير الفلسطيني في ضوء المستجد وفي دائرة أطراف الصراع العربية والغربية، أسوّق بعض ما كُتب بأقوى دلالة، عند العوفي في موضوع الحساب الاقتصادي، يفنّد أطروحة كفاية شعار" حل الدولتين" لضمان السلم والاستقرار وجلب الرخاء لدول المنطقة، وبالتالي لا جدوى المقاومة. يكشف عن خلفيات صفقة القرن الاقتصادية للمنطقة ومراميها التي أسقطتها عملية "طوفان الأقصى" ويقارن بين اقتصاد الحرب واقتصاد المقاومة. ينظر عبد الإله بلقزيز إلى الموضوع المحرج لسياسة الغرب وموقفه من العدوان على غزة، واصفًا سياسات الدول الغربية بكونها محمّلةً بنظرة استعمارية عنصرية وتحقيرية تجاه العرب. يرى أن حرب السابع من أكتوبر وضعت خطاب الغرب وسياساته على محكّ اختبار الإيديولوجي بالأفعال، بما كشف عن عقيدة معايير مزدوجة فضحت العنصريَّ والاستعلائيَّ والعدوانيَّ فيه.
أما جوهر الصراع عنده، يكمن في أنّ وعي الغرب يتمثل الوطن العربي في عناوين أربعة: الإسلام، النفط، الهجرة والإرهاب. في المقابل تبدو مشكلة الغرب في الوعي العربي محدّدة في: الهيمنة الاقتصادية، الهيمنة السياسية، العنصرية ودعم إسرائيل.
الأهوَل من هذا، الفجوة الهائلة بين سياسات الغرب وتراثه الفكري الأنواري، من جهة، وتماهي الكيان السياسي والمجتمع الثقافي، ما أعطى الفرصة لبعض العرب لاستنتاجات باطلة تقول بفساد الحضارة والمدنية الغربية طرًّا أسعفهم مفكّرون غربيون مثل هابمراس المناصر لدولة الاغتصاب والاحتلال. أستاذ الفلسفة في جامعة محمد الخامس علي أومليل يختصر قضية تكافل الغرب كله لحماية إسرائيل وما خذلنا جميعًا يُرجعه إلى ثلاثة أسباب: اشتراكُها دينيًّا مع الغرب المسيحي في العهد القديم من الكتاب المقدس. ثانيًا، المحرقة التي دفع الغرب" دِيَّتها" بإنشاء دولة يهودية على أرض الفلسطينيين. ثالثًا، وجود طوائف في بلدان الغرب تسخّر نفوذها الشامل لخدمة إسرائيل.
أفضل ما يتوِّج موقف وتعبير النخبة الفكرية المغربية من فلسطين والقضية القومية هو الرسالة التي انطلقت من الرباط والتفّ حولها بالتوقيع والتأييد باحثون وأدباء فاعلون في مجموع الوطن العربي، وجّهوها إلى مثقفي الغرب (في الشهر الثاني من العدوان) دعوا فيها إلى: "حوار مشترك حول القيم والمبادئ المشتركة، وحول موقع قضية فلسطين وحقوق شعبها منها؛ وإلى تصحيح ما يقع فيه أهل الإبداع من هفوات ورؤى خاطئة بشأنها، والدعوة إلى أن يستقيم الموقف الثقافي من هذه القضية على قاعدة مرجعية المبادئ الكبرى الإنسانية".
لذا، من الحيف وتحريف الحقيقة القول إن المثقفين العرب بمواهبهم واختصاصاتهم المتعددة ومواقعهم ظلوا صامتين أو دفنوا رؤوسهم في الرمال تجاه المجازر الوحشية التي حدثت في غزة وأبادت شعبًا كاملاً وبعثرت أشلاء الأطفال والأمهات والعجائز.
وإذا وُجد منهم الصامتون واللامبالون، فلا ينبغي أن يؤخذ الجميع بجريرة هذا العجز، فالمعنى الحديث للمثقف كما عرّفه سارتر هو الفضولي الذي يحشر أنفه في قضايا وهموم الآخرين، والشقيق القريب من باب أولى وأحرى.