تحت عنوان "ماذا تبقى من جيل التسعينات: عن الشعر والشعراء" أصدرت أسبوعية "أخبار الأدب" ملفاً فجر معركة في الوسط الثقافي المصري.
يرتكز مصطلح الجيل الأدبي على بضعة معايير أهمها: التقارب في الميلاد بين أفراده، الاستجابة لحدث عام مؤثر (مثل النكبة أو النكسة)، رؤية فكرية متشابهة، حساسية إبداعية خاصة، رفض جمالي للجيل السابق.
ويحدث أن يختزل "الجيل" في خمسة أو ستة أسماء يتصدرون المشهد وفق منطق "شلة المصالح". ما يعني أن مفهوم المجايلة لا يتحقق بسهولة ولا يشمل بالضرورة كل المبدعين الذين تجمعهم حقبة ميلاد مشتركة.
من هم التّسعينيون؟
قدم الملف شهادات لمجموعة من الشعراء المصريين منهم: أشرف يوسف، بهية طلب، جرجس شكري، جيهان عمر، سيد محمود، شريف الشافعي، عزمي عبد الوهاب، علاء خالد، عماد فؤاد، عيد عبد الحليم، فارس خضر، كريم عبد السلام، كمال أبو النور، محمد الكفراوي، محمود شرف، نجاة علي، وليد الخشاب، وياسر شعبان.
واستحضرت بعض أسماء الراحلين مثل: أسامة الدناصوري، ومهاب نصر، ومحمود قرني. لكن كل تمثيل ـ مهما بلغت جودته ـ ينطوي على نفي واختزال، فكيف يفتقر الملف إلى شهادة شعراء مثل عماد أبو صالح وإيمان مرسال ومصطفى عبادة؟ لماذا الاقتصار على "المصريين"؟ هل حركة الشعر العربي منعزلة جغرافياً؟ أليست سوزان عليوان من أهم شاعرات الجيل؟ لماذا ليست ثمة إشارة إلى تجربة شعر العامية؟ لماذا استُبعد شعراء تميزوا في القصيدة العمودية مثل أحمد بخيت؟
في مقالته "فخ اصطياد الشعراء إلى أرض أخرى غير الشعر والمجاز"، رأى الناقد ممدوح فرج النابي أن الملف "بمثابة شهادات ناقصة تتحدث عن جيل، غاب عنه ممثلوه الرئيسيون".
انتقاد السؤال
في شهادته ضمن الملف بدا الشاعر محمود خير الله منزعجاً من السؤال نفسه: "ماذا تبقى من جيل التسعينات" واعتبره استخفافاً، وأضاف: "كيف يجرؤ أحد على الحديث عن "سقوط" جيل إبداعي بحجم جيل التسعينات وتأثيره"؟!
سألنا خير الله عن سرّ غضبه فأجاب: "صدمني التناقض الغريب بين استخفاف أسئلة المحرر بمنجز هذا الجيل من ناحية، وانشغاله بعمل تحقيق عن "ما تبقى من جيل التسعينات" من ناحية أخرى. فطنتُ من أسئلته العجاف إلى أن فخاً يُنصب للشعراء بأسئلة عامة لا تقول شيئاً عن جيلٍ من الشعراء غير محدد المعالم، ورأيت أن التناقض في أسئلة الملف لا يعكس موقفاً جمالياً أو فنياً من الشعر، بقدر ما يعكس رغبة المحرر الانتهازية في تقديم "عرض خاص" يأخذ شكل التحقيق الصحافي، يمكّنه من وضع "جيل التسعينات" داخل قالب جاهز يمكن تسويقه لاحقاً، وساعتها سيقوم المحرر بدور "وكيل جيل التسعينات" الأدبي، ويكون له أن يحصد ما يتوقّع من نجاح في تسويق الفكرة بما يسهل الوصول إلى المنح والعطايا".
يضيف خير الله: "بعد نشر الملف فوجئ الجميع بأن المحرر يفتتحه بشهادة له محاولاً تصنيف الشعراء على هواه، وفوجئت بتهاون الصحيفة المفترض ألا تسمح بمثل هذا الأسلوب في تصفية الحسابات، والتي ينتظر منها أن تحترم قامات الشعراء الذين طلبت شهادات عن تجاربهم، فإذا بهم يأتون في الترتيب الثاني من أولويات الصحيفة بعد شهادة المحرر، وربما كان هذا ما أثار ردود أفعال واسعة، وأغضب القراء وبعض الشعراء الذين فطنوا هم أيضاً لهذا الفخ، فانهالوا على الفايسبوك يطرحون تساؤلات منطقية جداً عن كم الأخطاء المهنية المرتكبة.
ماذا عن الغائبين؟
برغم منجزه في شعر الفصحى والعامية غاب اسم الشاعر طارق هاشم عن الملف وحين سألناه قال: "لا أفضل فكرة المجايلة لكننا نضطر إلى قبولها كتصنيف إجرائي. لكن الملف حوّل صحيفة مفترض أنها للأدباء كافة إلى غرفة صغيرة يكتب فيها كل من له علاقة بصاحب الغرفة. وهذا ليس رأيي بمفردي. لذلك أقول إنه ملف غير مهني لاعتماده على بعض الأسماء ليس لها إنجاز يستحق الوقوف أمامه. وهل المحرر يتعامل مع شعر العامية على أنه خارج المشهد لأن شعراءه لم يسافروا إلى إسبانيا وكندا وظلوا في مصر؟ أظن المغازلة واضحة في الملف منذ اللقطة الأولى.. إضافة إلى التجرؤ على تجارب كبيرة كرفعت سلام ومحمود قرني وفتحي عبد الله. ويكفي القول إن ترجمات رفعت سلام لبودلير ورامبو وكفافيس وريتسوس من أهم الأحداث الأدبية في تاريخنا الثقافي. وبرغم أنني نشرت أكثر من سبعة مجاميع شعرية لم تكتب عني الصحيفة خبراً صغيراً طيلة ربع قرن! لذلك قناعتي بأن الملف يفتقر إلى الدقة والمهنية".
وجهة نظر المحرر
تعليقات خير الله وهاشم تحيل إلى هشاشة مفهوم المجايلة. ثمة غضب مما اعتبر نبرة استعلاء واستخفاف بمنجز جيل بدءاً من العنوان نفسه، وغضب مما اعتبر تهميشاً متعمداً لبعض الأسماء.
فلماذا الغضب؟ ومن أشعل النار؟ ولماذا اختار محرر الملف الكاتب الصحافي حسن عبد الموجود، تلك الطريقة في تقديم جيل شعري كامل؟
يجيب عبد الموجود: "منذ اللحظة الأولى لتفكيري في ملفٍ عن جيل التسعينات الشعري في مصر، أدركت خطورة ما أُقبِل عليه وما أضع نفسي في مواجهته، وتأكَّد شعوري بعدما كتبت شهادتي الخاصة بلغة رآها البعض حادة، أردت أن أضرب بها الجمود الذي سيطر على الساحة الشعرية خلال السنوات الأخيرة. أعلم أن كثيرين لا يقبلون بزعزعة المستقِر، وخدش الأيقونات التي يعلقونها في غرف نومهم، وأعلم كذلك أنه لا يوجد شاعر يمكن أن يرى نفسه رديئاً أو مقصِّراً، أو أن الأجيال الأحدث قد تجاوزته".
ما اعُتبر تقديماً استعلائياً، أو "استهلالية هجومية فتاكة" بتعبير الناقد ممدوح فرج النابي. برره المحرر بأنه إلقاء حجر في مستنقع راكد. فماذا عن نفي بعض الأسماء واستبعادها؟
يجيب عبد الموجود: "أعترف بأنني تحت ضغط العمل واستكتاب 24 شاعراً في الملف، وهو جهد شاق، نسيتُ بعض أسماء جيل الثمانينات الذين تركوا بصمة واضحة في مسيرة الشعر المصري، منهم فاطمة قنديل وإبراهيم داود وعلي منصور، حيث انحازوا إلى الشعرية الجديدة. بينما اعتذر بعض الشعراء مثل أحمد يماني وعماد أبو صالح وإيمان مرسال وياسر عبد اللطيف ومحمد سالم، وقد حرصت على نشر شهادات الشعراء كاملة بدون حذف حرف واحد، رغم اختلافي مع بعضها".
لا يخفي المحرر موقفه الغاضب قائلًا: "معظم شعراء الثمانينات ودعوا عقدهم السادس، وشعراء التسعينات على مشارف الستين، وبعضهم لأسباب تخصُّ الفقر الإبداعي أو تكديس الأموال اختفوا سنوات طويلة وتوقفوا عن إصدار الدواوين، ثم عادوا فجأة ووجدوا أن الحياة تغيَّرت من حولهم، فأصيبوا بالصدمة وأصبحت صفحاتهم على الفايسبوك صفحات للمظلومية أو التفاخر بما كتبوا في الماضي، أو تصفية حسابات مع الوسط الثقافي كله بسلاطة اللسان لا الإبداع. فلم أندهش للتهجم على شخصي، وقد كنت أتوقعه، لأنه جاء من أشخاص خرجوا للتو من المتاحف أو القبور وتفوح منهم رائحة الفورمالين".
بشهادة المحرر تتضح حجم النيران التي تحيط بالملف وبمقولة "جيل التسعينات" نفسها. فالمُشارك غاضب والمُستبعد غاضب والمحرر نفسه لا يقل عنهما غضباً. ويبقى الحكم لقراء الشعر.