يعتبر "الجينز" في عصرنا الحالي أكثر من مجرد قماش أو ملبس. إنه ثقافة جسدية وروحية عميقة تعكس مفاهيم التمرد على القيود الاجتماعية والخروج عن المألوف، حيث يعده الكثيرون "رمزاً للحرية".
يتم اليوم تصميم وإنتاج آلاف الملابس من الجينز بخيارات لا تعد ولا تحصى، من السراويل الواسعة المعروفة بـ"بيل بوتمز"، و"الجينز الضيق" الذي ابتكره المصمم الفرنسي من أصول تونسية هادي سليمان خلال الفترة التي قضاها في شركة Dior Homme، وصولاً إلى "الجينز الممزق" و"الجينز المتعثر-المثقوب" حديثاً، الذي يمكن المرء من خلال ارتدائه - بمختلف قصّاته سواء المتزمّتة والأكثر تحرراً - أن يُعبر عن أسلوبه الشخصي في الحياة.
"ميلاد الجينز الأزرق"
يعتبر قماش "الدنيم" - المتين والمقاوم لعوامل الزمن - ذو الأصول الفرنسية باسم "سيرج دي نيمس"، الأب الروحي لما نعرفه عن موضة الجينز الأزرق اليوم، والذي ظهر في بدايات القرن التاسع عشر في فرنسا قبل أن ينتقل إلى الجارة إيطاليا ليتخذ اسمه المعروف اليوم بـ"جينز" أو "جين".
ويعيده بعضهم - تاريخياً - إلى عام 1567، نسبة إلى بحارة مدينة جنوة الإيطالية، ومنها تم اشتقاق الاسم المعروف اليوم من كلمة "genoese".
أياً كان الأصل، لا شك بأن "الدنيم" غدا هو المادة الخام التي مكّنت الأميركي ليفي شتراوس - ذو الأصول الألمانية - في مدينة سان فرانسيسكو من الحصول على براءة اختراع الجينز الأزرق عام 1853، (في 21 من شهر يونيو/ حزيران)، عندما بدأ "ليفي" العمل مع شريكه جاكوب ديفيس، الذي كان بدوره يبحث عن شريك لتقديم براءة اختراع لتصميمه سروالاً بمسامير معدنية في مناطق معينة بهدف جعله يدوم لفترة أطول.
وبالفعل، حصلت شركة Jacob Davis and Levi Strauss Company على براءة الاختراع مقدمةً بذلك صنفاً "ثورياً في عالم الموضة"، وأصبح منذ ذلك اليوم "عيد ميلاد" الجينز الأزرق الذي كان يتميز بجيب واحد خلفي مدرز عليه قوسان، وجيب صغير للساعة، وحزام عريض، وأزرار للحمالة ومسمار نحاسي في الوسط. ومنها أطلق الشريكان العنان لانتشار هذا الزي الذي غزا العالم لاحقاً.
من علامة للفقر إلى موضة
تحوّل الجينز في بدايات نشأته من لباس يرتديه أصحاب المهن الشاقة كعمال المناجم والبحارة وغيرهم، إلى موضة "عصرية خالدة" ارتبطت ارتباطاً وثيقاً بثقافة الشباب عبر الأجيال.
وساعدت أفلام الويسترن في تغذية هذه الفكرة من خلال مشاهد "رعاة البقر" وظهور نجوم هوليوود الشباب بالجينز في خمسينات القرن العشرين مثل مارلون براندو وجيمس دين.
رغم اعتبار الجينز رمزاً من رموز المساواة بين الجنسين، فإنّه لم يلق رواجاً بين النساء إلا بعدما ظهرت به مارلين مونرو في فيلم River of No Return عام 1952.
في عام 1956، قامت شركة ليفي شتراوس العريقة بتجربة إطلاق خط من سراويل الجينز السوداء أطلقت عليه اسم "جينز إلفيس بريسلي". عند إصدار فيلم إلفيس الناجح عام 1956 بعنوان "جيلهاوس روك"، كان ذلك بمثابة "زواج موفق" بين علامة تجارية عريقة وشخصية فنية تحولت في ما بعد إلى أسطورة.
حتى ذلك الوقت، كان الناس يرتدون الجينز خلال فترات عملهم الطويلة، وكان الجينز حينها مرادفاً للمفاهيم الرومانسية لرعاة البقر الذين يتسمون بالصلابة والاستقلالية والطابع الأميركي، ولكنهم في الوقت نفسه ريفيون وينتمون إلى الطبقة العاملة.
صورة الفتى السيئ
بالنسبة إلى إلفيس برسلي فهو كان يكره الجينز في الواقع، كما هي حال معظم الناس من خلفيات الطبقة العاملة الحقيقية. كان الجينز عنده مجرد تذكير بـ"العمل الجاد والفقير" وانعكاساً لصورة "الفتى السيئ". في هذا السياق تقول لين دواني المؤرخة والمؤرشفة في شركة ليفي شتراوس منتقدة سلوك هوليوود في ذلك الوقت قائلةً: "مصممو الأزياء في هوليوود كانوا يضعون جميع الأولاد السيئين في الجينز".
وكذلك ارتبط الجينز بالفتيان الجانحين وهم يقودون دراجاتهم النارية ثائرين على قواعد العائلة الصارمة. لاحقاً عملت شركات إنتاج الجينز من خلال الإعلانات لمنتجاتها إلى تكريس صورة نمطية مغايرة لثقافة الجنوح والانفلات عبر تصوير الفتيان/الفتيات الذين يرتدون الجينز على أنهم مواطنون مثاليون يدرسون بجد ويقدّرون آباءهم وأمهاتهم.
مع ذلك، ظلّ الجينز لفترة طويلة رمزاً للتمرد في عالم الموضة، حتى أنه حُظر مؤقتاً في بعض المدارس العامة الأميركية.
وفي سنوات معينة، غدا الجينز الأزرق بمثابة "رمز سياسي" وتحديداً أثناء المطالبة بحقوق التصويت للمجتمع الأميركي الأفريقي في الولايات المتحدة في ستينات القرن العشرين.
في تلك الحقبة، لاحظت الكاتبة والمؤرخة الأميركية زوي واشنطن، استخدام "الجينز - الدنيم" كوسيلة للمساواة بين الجنسين و"كعلامة على الهوية بين الطبقات الاجتماعية".
مثّل الجينز أيضاً، أسلوب حياة أميركياً أسهل وأكثر سعادة، وهو ما أراد الأوروبيون اقتناءه، فالعديد من الجنود الأميركيين المتمركزين في أوروبا واليابان خلال الحرب العالمية الثانية كانوا يرتدون الجينز خارج الخدمة بفخرٍ كـ"رمز للوطن".
رمز لليسار
خلال ستينات القرن العشرين، انتشر الجينز بين أفراد الطبقة المتوسطة في الولايات المتحدة. وبدأ طلاب الجامعات المحتجون في ارتدائها كعلامة على التضامن مع الطبقة العاملة، الأكثر تضرراً من التمييز العنصري والتجنيد الإجباري.
لكنّ الجينز لم يكن رمزاً للديموقراطية فحسب، بل كان أيضاً وسيلة لتحقيق المساواة بين الطبقات المختلفة. فقد كان الجينز متيناً ورخيصاً إلى حد ما، ولم يكن ضرورياً غسله كثيراً أو كيّه على الإطلاق.
ووجدت بعض النساء أن الجينز يمكن أن يتناسق بطريقة جيدة مع بعض القطع الراقية كالقمصان والجاكيت.
إن هذا التنوع، والقدرة على أن يصبح كل شيء لجميع الناس، هو سر بقاء الجينز كعنصر أساسي في الملابس. وغدا الجينز جزءاً من ثقافة دارجة مع انتشار موسيقى "الروكابيلي" و"الهيبيز" و"البانك" و"الهيب هوب"، ليُصبح "الجينز" بعدها جزءاً من ثقافة الشباب الشعبية.
وعلى غرار الولايات المتحدة، كانت حركة "حليقو الرؤوس أو Skinhead" في لندن خلال ستينات القرن الماضي حتى مطلع الثمانينات من أبناء الطبقة العاملة الذين ميزوا أنفسهم برؤوسهم المحلوقة، وأحذية العمال، وسراويل الجينز التي يلبسونها متأثرين بـ"موسيقى الريجي"، وأزياء السود التي انتشرت في تلك الفترة. رافضين سياسات التقشف للمحافظين في البلاد. ولكن ألصق الكثير من العنف والعنصرية بأفراد تلك الحركة.
الجينز هو إذاً حاضر في ثقافة الشباب الأميركي كما بالنسبة إلى شباب الحركات اليسارية الغربية أيضاً. وبهذا نقول إنه برغم "الجذر الرأسمالي" للجينز كـ"منتج أميركي" فإنه حاضر في كل التيارات الأخرى، اليسارية منها واليمينية.
ولعلّ صورة المُثقف اليساري وهو يرتدي "الجينز المكحوت" فوقه قميصٌ أحمر وقبعة "غيفارية" تُحيل إلى البروليتاريا وتدلّ إلى هوية وموقف ورأي سياسي من قبل أن نسمع منه ولو كلمة واحدة.