النهار

"الأسطورة البدويّة"... بين التأّثير الأدبي والتّاريخي
علي عطا
المصدر: القاهرة- النهار العربي
يناقش كتاب "الأسطورة البدوية في كتابات رحالة القرنين الثامن عشر والتاسع عشر" لمدير الأبحاث في المركز الوطني الفرنسي للبحث العلمي سارغا موسى، مسلّمات عديدة نتجت عن صورة نمطية للبدو العرب. هذه الصورة هي أقرب إلى الخيال منها إلى الواقع شديد التركيب، في بقعة جغرافية شاسعة وفي حقبة زمنية بزغ خلالها ولع أوروبي بالشرق عمومًا، ويبرز جهودًا أسهمت في إنصاف هذه الجماعة البشرية، عبر إبراز القيم الإنسانية الرفيعة التي تتبناها، وإن اتسمت هذه الصورة بالمثالية في كثير من الأحيان، فصنعت مع الصورة الأخرى ما يسميه المؤلف "الأسطورة البدوية". الكتاب صدر بالفرنسية عام 2016 عن منشورات جامعة السوربون وترجمته إلى العربية أستاذة الآثار والحضارات القديمة منى زهير الشايب، لحساب المركز القومي المصري للترجمة. يفتتح المؤلف الكتاب باقتباس من رسالة كتبها غوستاف فولوبير إلى لويس كوليه بتاريخ 13 آب (أغسطس) 1846: "أحب هؤلاء القوم حادّي الطباع، المثابرين، الأشداء، فهم الصورة الباقية للمجتمعات البدائية، تراهم في قيظ النهار يتمددون في الظلال أسفل جمالهم، ويسخرون – وهم يدخنون غلايينهم – من التمدن الذي أشعرهم بالغضب الشديد".
"الأسطورة البدويّة"... بين التأّثير الأدبي والتّاريخي
لوحة تعبيرية
A+   A-
يناقش كتاب "الأسطورة البدوية في كتابات رحالة القرنين الثامن عشر والتاسع عشر" لمدير الأبحاث في المركز الوطني الفرنسي للبحث العلمي سارغا موسى، مسلّمات عديدة نتجت من صورة نمطية للبدو العرب. 
هذه الصورة هي أقرب إلى الخيال منها إلى الواقع الشديد التركيب، في بقعة جغرافية شاسعة وفي حقبة زمنية بزغ خلالها ولع أوروبي بالشرق عموماً، ويبرز جهوداً أسهمت في إنصاف هذه الجماعة البشرية، عبر إبراز القيم الإنسانية الرفيعة التي تتبناها، وإن اتسمت هذه الصورة بالمثالية في كثير من الأحيان، فصنعت مع الصورة الأخرى ما يسميه المؤلف "الأسطورة البدوية". 
الكتاب صدر بالفرنسية عام 2016 عن منشورات جامعة السوربون وترجمته إلى العربية أستاذة الآثار والحضارات القديمة منى زهير الشايب، لحساب المركز القومي المصري للترجمة. 
يفتتح المؤلف الكتاب باقتباس من رسالة كتبها غوستاف فولوبير إلى لويس كوليه بتاريخ 13 آب (أغسطس) 1846: "أحب هؤلاء القوم الحادّي الطباع، المثابرين، الأشداء، فهم الصورة الباقية للمجتمعات البدائية، تراهم في قيظ النهار يتمددون في الظلال أسفل جمالهم، ويسخرون – وهم يدخنون غلايينهم – من التمدن الذي أشعرهم بالغضب الشديد". 
 
 
البدوي المضياف
يبين هذا الكتاب كيف تحوَّلت صورة البدوي خلال القرن الثامن عشر، من قاطع طريق في الصحراء، إلى ذلك البدوي المضياف. وقد لعب الرحالة في هذا التحول - كما لاحظ المؤلف - دوراً رئيساً، كما أثروا محورياً، في إعادة تقييم شخصية النبي محمد (ص)، ما أسهم في تغيير علاقة أوروبا بالإسلام. 
لقد حظي البدو الرحل شيئاً فشيئاً – خلال القرن الثامن عشر – بنظرة مثالية تحوَّلت بعد كتابات روسو "لأسطورة بدائية". 
لعب رحَّالة القرن التاسع عشر دوراً رئيساً في بناء هذه "الأسطورة البدوية" ونشرها؛ "والتي يمكننا تتبع رواياتها المختلفة عند كتّاب معروفين مثل لامارتين، وكذا عند مؤلفين غير مشهورين مثل المؤرخ جوزيف بوغولات". 
يتناول الكتاب انتقادات فولتير وشاتوبريان الداعمة للنظرة المثالية للبدو، ولكنها لم تمنع – بحسب المؤلف - الخطاب المعادي، الذي تأكَّد في مطلع القرن التاسع عشر، ومثَّلت "رحلة إلى الشرق" لفلوبير المحصلة النهائية له. 
ووفقاً لهذه المحصلة: لا تقوم "الأسطورة البدوية" على فكرة هيمنة "الآخر"، بل على العكس؛ تظهر ميْل عددٍ من الرحّالة إلى نوع من التجرد من "الذات" وتسمح بالعودة بالنقد على أوروبا نفسها في عصر التنوير والرومانسية، والذي لا يخلو من الاستبداد الذي ناهضه مفكرو تلك الحقبة الزمنية.
 
سحر وغموض
يرى سارغا موسى أن الرحَّالة، هم مثل الروائيين أو الشعراء تماماً، "ينقلون تخيلاً شاملاً عن الشرق"، دون السماح بأن يختزل هذا التخيل في تصورات سلبية خالصة عن الآخر. 
وهكذا – يضيف المؤلف - خلَقتْ شخصية البدوي تدريجاً، منذ نهاية القرن الثامن عشر، سحراً لا يخلو من القلق، وبالتالي من بعض الغموض، ولكن هناك مع ذلك علاقة جديدة بين الرحّالة والصحراء، وهي مساحة شاسعة عادة ما يعتبرها الحجاجُ، كما ذكرت التوراة، "أرضاً للنفي والترحال". 
وفي هذا العصر كانت الصحراء مثلها مثل البحر أو الجبل، موضعاً لتغيير ساهم فيه الرحالة المحدثون: الدبلوماسيون والتجار، وكذا المستكشفون والمستشرقون، أو أيضاً الفلاسفة والكتاب من عصر التنوير. 
هؤلاء جميعاً أسهموا في قلب صورة المكان المروع الذي يجتازه قُطَّاع الطرق، إلى أرض مأهولة، بل يسكنها قوم حافظوا على تقاليد الضيافة المرتبطة بالعصور القديمة. إن كتابات روسو التي أحدثت هوساً – حتى وإن كانت ضمنية فقط في كتابات الرحّالة إلى الشرق  منذ النصف الثاني من القرن الثامن عشر – حاسمة في بناء "أسطورة بدائية"، نادراً ما وُجد مثلها حتى عصرنا الحالي، "حتى في أعمال المتخصصين في الاستشراق الأدبي، مع استثناءات نادرة" ص 10. وقد تفسر عوامل أخرى – قبل روسو – هذا التحول النموذجي. وهكذا كان العرب البدو منذ بداية القرن الثامن عشر هدفاً لإعادة تقييم تدريجي، سار جنباً إلى جنب مع تغيير صورة محمد (ص) وعلى نطاق أوسع صورة الإسلام في فكر عصر التنوير.
 
 
ألف ليلة وليلة
وساهمت ترجمة غالاند لحكايات ألف ليلة وليلة (1704 – 1717) في إثارة شغف جديد بالشرق. ولكن عندما يتعلق الأمر بالبدو فإن كتابات الرحالة هي التي لعبت دوراً رئيسياً في تغيير صورتهم، كما يقول المؤلف، فكان الفارس دارفيو هو أول من لاحظ البدو لفترات طويلة، حيث عاش بين القبائل الرحل في سوريا منذ نهاية القرن السابع عشر، وأدت نظرته الوجدانية إلى الكشف عن عناصر أصيلة في الثقافة البدوية، مثل كرم الضيافة والمشاركة. كما أبرز دو بوا إيميه الذي شارك في حملة بونابرت على مصر، قيم المساواة والحرية والإخاء وما نادت به الثورة الفرنسية، عند البدو المصريين. 
أما بالنسبة للكونت رزيوسكي الذي أقام سنوات عديدة في الشرق، في بداية القرن التاسع عشر، عندما احتلت روسيا والنمسا بولندا، فقد رأى في أسلوب الحياة الجماعية لقبائل الصحراء السورية "تحقيقاً واقعياً لمثالية روسو"، لا سيما عندما يتعلق الأمر بالمصلحة العامة. وبعبارة أخرى، ففي مطلع القرن الثامن عشر والتاسع عشر كانت الصورة المثالية للبدو العرب موضوعاً لأسطورة تكميلية ذات بعد سياسي. وإذا ظهر البدو كأمة مثالية عند عدد من الرحالة، فإنه في نهاية عصر التنوير ظهروا كتجسيد شرقي لـ"الهمجي النبيل"، ومع ذلك فلم يكونوا خارج نطاق "الحضارة" بالكامل، إذ كانوا يظهرون أحياناً مثل مانحي استقلال مطلق للهيمنة المركزية أو المدنية، وأحياناً مثل أفراد مجتمع حافظ على الأخلاق السمحة للبطاركة القدماء، وأحياناً كأمناء على التراث الشفهي الذي يظهر في التركيب الفطري للشعر، بحسب المؤلف. 
 
تأثير أدبي
يذهب المؤلف كذلك إلى أنه كان لهذه الأسطورة في القرن التاسع عشر تأثير أدبي؛ "يمكن أن يمثل امتداداً لهذه الدراسة". ويضيف أنه إذا وضعنا بعض التحليلات للروايات، فلا يمكن أن تكون القضية هي تكامل النصوص التي تنقل الأسطورة البدوية في عمل يتعلق بالضرورة بأدب الرحلات. 
يؤكد أنه ليس أفضل من المسرح في مطلع عصر التنوير وفجر الرومانسية، ليسهم بالفعل في نشر التصورات المجسدة لكرم البدو والحرية في الصحراء التي زيَّفها الرحَّالة: على سبيل المثال "إسماعيل ومريم" (1821) لديبوتي ميريه، مسرحية مستوحاة من أحد المصادر الممكنة عن البدو عند بوغولا.     
ويرى موسى أن البدو ليسوا موضوعاً لتحول الصورة فحسب، فهم ينتمون لمجتمع بدائي لم تفسده الحضارة، ويمثلون - بالنسبة إلى عدد من الرحالة إلى الشرق والجزيرة العربية في عصر التنوير والرومانسية - شعباً مثالياً يحمل كل الفضائل المرتبطة بالمجتمعات البشرية التي اختفت من التاريخ: "مثل الضيافة الموروثة من بطاركة العهد القديم الذين يرتبطون بهم أحياناً، وللبدو أيضاً بلاغة فطرية وحب للمبارزة بالشعر، وأخيراً وقبل كل شيء الثناء على الحرية البدوية الرائعة التي عبّر عنها فلوبير". 
هذه الخصائص كافية، كما يرى المؤلف، لإنتاج أسطورة مثالية تتحدى فكرة الفصل الجذري بين الشرق والغرب، وعلى العكس من ذلك تنشئ الجسور بينهما، هكذا كتب لامارتين في مقدمة "قصة إقامة فتح الله الصغير بين البدو الرحل في الصحراء الكبرى"، وهو نص ترجمه ليضيفه إلى كتابه "رحلة الشرق". 
 
 
فلوبير
 
 
قصص السفر
يقول المؤلف: "لا تعطي قصص السفر، منذ بداية القرن التاسع عشر، عالمَ البدو ما يستحقه في تلك الصورة، حتى جعلتنا نطلق عليها "حضارة الصحراء"، التي ستزدهر أكثر في ما بعد، بعدما قال لامارتين إنها أصل حضارة العصور الوسطى الأوروبية التي اكتشفها الروائيون في الوقت نفسه. 
يركز سارغا موسى على قصص السفر، وخصوصاً بعض النصوص التي تنتمي إلى أنواع أدبية غير الرواية، ويقول: "لذلك كان من المهم إدراك التغيير التدريجي لمعنى كلمة (البدو)، لإجراء تحقيق صغير في بعض قواميس القرن الـ18". 
ومن ناحية أخرى، ونظراً إلى أن الأدب الوصفي ليس منغلقاً على نفسه، ولكنه على العكس من ذلك معروف بشيوعه الواسع، لذا كان من الضروري مراعاة التداخلات مع النصوص الأخرى، حتى لو كانت ذات طبيعة خيالية، وفي حكاية شرقية – من وحي فولتير وأدخلها بوتوكي في حكايته عن رحلته للمغرب – يتضح كيف استثمرت صورة البدوي المثالي في الأدب في نهاية عصر التنوير، بينما تبقى راسخة في تجربة الشرق الحقيقي، وعلى العكس من ذلك فإن العديد من النصوص التي تعد جزءاً من كتاب "وصف مصر"، الذي أنجزه علماء حملة بونابرت، على الرغم من تقديمها بموجب منهج علمي بحت، "تساهم في نقل وإعادة تشكيل الأسطورة البدوية في عهد الإمبراطورية الأولى، سواء لإعطاء صورة مثالية أو سلبية عنهم". 
 
لامارتين
 
 
نموذج استشراقي
يضيف أنه لم يحاول التمييز بين كبار الكتاب وصغارهم؛ "بل على العكس من ذلك التوفيق بين كتاباتهم بطريقة تقدم الأسطورة البدوية كنموذج استشراقي أدبي وفكري جديد". وبهذا المعنى - يقول المؤلف - كان الفصل بين القرنين الـ18 والـ19، كما يُمارَس غالباً في السياق الأكاديمي مصطنعاً. 
ويوضح في هذا السياق أنه كان من الضروري احتواء مساحة تمَّ تأسيسها في ما مضى لإيضاح لماذا بُنيت صورة البدوي الرومنطيقي مرتبطة بعرب الصحراء الذين تخيَّلهم عصر التنوير... 
أخيراً، لفهم كيف أدت هذه الفترة إلى نشوء خطاب "رهاب بدوي"، كان من اللازم أيضاً إظهار كيف تسهم قصص السفر إلى حد كبير في تغذية أنواع أخرى من الأدب، مثل قصة الفارس دارفيو في الصحراء، وكذلك مقالة "العرب" (1767)، التي كتبها توربين لموسوعة ديدرو وألمبير. 
ويلاحظ المؤلف كذلك أنه تمَّ إقصاء خطاب "الرهاب البدوي" في ثقافة النخبة المستنيرة الذي نقله، لقرون عدة، الحجاج المسيحيون. ويضرب مثلاً على ذلك بقوله إن الخوف المستمر الذي شعر به لامارتين، خلال رحلته إلى الأراضي المقدسة، من العدوان البدوي، لم يمنعه من أن يتخيَّل نفسه شاعراً عربياً، منتهياً إلى أن "الأسطورة البدوية، ليست أقل مركزية من الخطاب الاستشراقي الذي انتقده إدوارد سعيد".      
 

اقرأ في النهار Premium