كل رواية عظيمة لا تصبح بالضرورة فيلمًا عظيمًا! هناك من يرى أن الشاشة تسطّح الأفكار وتصبح مغامرة خطرة غير مضمونة. في المقابل، هناك من يعتقد أن علاقة وطيدة تربط بين العالمين، بدليل أن الشاشة أعادت اكتشاف روايات طواها النسيان. فأيهما يفيد الآخر أكثر؟
هذه الإشكالية طرحناها على مبدعين تميّزا في الكتابة الأدبية كما في الكتابة الدرامية، هما د. حاتم حافظ الروائي والسيناريست وأستاذ الدراما في أكاديمية الفنون، والكاتب والسيناريست محمد هشام عبية.
إذا أخذنا نجيب محفوظ كنموذج لاشتباك المرئي والمكتوب، يرى حاتم حافظ أنه أفاد السينما، والدليل أن قائمة أفضل 100 فيلم تضمّ ما لا يقلّ عن 10 أعمال مأخوذة عن نصوصه. مع إقرار حافظ بأن معالجة السينما لرواية "الحرافيش" كانت دون المستوى، كما تحفّظ على معالجات المخرج حسن الإمام، مفضّلاً عليه مخرجين آخرين مثل عاطف الطيب وصلاح أبو سيف.
هذا الكلام ينقلنا إلى فكرة "خيانة" النص. ثمة إجماع مثلًا أن معالجات السيناريست محسن زايد لروايات محفوظ كانت أكثر إخلاصاً عن غيره، بينما رأى السيناريست محمد هشام عبية أن محفوظ نفسه سنّ سنّة حسنة بترك الحرّية لصنّاع الدراما في معالجة نصوصه.
من فيلم الكرنك عن رواية محفوظ
روائيون يكتبون للشاشة
ثمة كتاب عالميون لم يكتفوا بنصوصهم المكتوبة بل جرّبوا حظهم في إبداعات تلفزيونية وسينمائية منهم ماركيز وبول أوستر، كما شارك محفوظ في كتابة العديد من الأفلام غير المأخوذة عن نصوصه.
في هذا السياق، يرى هشام عبية أن نجيب محفوظ كان سابقًا لعصره، بدليل أنه كتب مثلًا فيلم "ريا وسكينة" مستنداً الى تحقيق صحافي عن سلسلة جرائم، وبهذا فإنه وسّع مصادر القصة السينمائية ولم يقصرها على الأدب.
وعمّا اذا كانت الكتابة للسينما تضيف شيئاً للأديب، يقرّ عبية بنجاح بعض الأدباء في المجالين، لكنه يفضّل ألّا يكون للكاتب يد في تحويل نصه للشاشة، لأنه ليس بالضرورة كل روائي بارع في كتابة السيناريو، مثلما ليس كل سيناريست ناجح روائيًا. ولا شك أن نجاح الأديب جماهيريًا يلعب دوراً مؤثراً في تحويل أدبه إلى أفلام ومسلسلات.
ربما كلام هشام صحيحًا، والدليل أن محاولات يوسف إدريس للمشاركة في كتابة أفلام عن نصوصه لم تُكلّل بالنجاح، ولدينا مثال آخر هو أسامة أنور عكاشة الذي أصبح ظاهرة في الكتابة التلفزيونية، لكنه لم يحقق نجاحاً كبيراً في رواياته وقصصه. بينما نجاح روايات أحمد مراد ساعده في تحويلها سينمائيًا بشروطه ومعالجته.
في المقابل، يرى حاتم حافظ أن أفضل كتّاب الدراما هم أصحاب خلفية أدبية مثل وحيد حامد وأسامة أنور عكاشة، حيث بدآ حياتهما ككُتّاب قصة. فالرواية في رأيه مهمّة لتكوين السيناريست "لأنها تصنع شخصيته كراوٍ، وتشكّل مهارته في بناء حكايته. وضعف الكتابة الدرامية الحالية سببه الأساسي جهل كتّابها بفن الرواية، لهذا يبرع مثلًا عبد الرحيم كمال ومحمد سليمان عبد المالك، لأنهما في الأساس يكتبان الأدب، في حين برع محمد أمين راضي- رغم عدم كتابته للأدب- لأن ثقافته الروائية جيدة".
ويضيف حاتم: "الرواية تحتاج معرفة قوية في اللغة، بينما تحتاج الدراما الى فهم أعمق للصورة، لكنّ كليهما يعتمد على قصة وشخصيات مرسومة بذكاء. أيضًا السياقات تختلف لأن الكاتب يجلس ويكتب من دون تدخّل من أحد، فالأدب فن فردي أما الدراما فسياقها جماعي، وهناك اعتبارات للسوق وتدخّل المنتج والمخرج والنجوم والأجهزة الرقابية العديدة، بما فيها الرقابة المجتمعية".
بدوره يعترف هشام عبية بأن الأدب سيظل عمودًا أساسيًا في الدراما التلفزيونية لمن يبحث عن أعمال مبنية على أساس صلب، فالروايات تشبه الخرسانة التي يُبنى عليها العمل الدرامي، بشرط أن يتوفر فيها قابليتها للتحول الى مسلسل أو فيلم.
ويضيف: "السيناريست في تعامله مع النص الأدبي هو مثل من يحوّل برتقالة إلى تفاحة. كلتاهما فاكهة ولكن تظل الفروق بينهما كبيرة في اللون والطعم والشكل. هكذا الرواية والسيناريو، كلاهما أبناء عمومة وينتميان إلى فن الحكي لكنّ الصفات والملامح وظروف الإنتاج مختلفة".
حاتم حافظ
حيرة بين هويتين
ينتمي هشام عبية وحاتم حافظ إلى الجيل نفسه، وكلاهما عمل في الصحافة ونشر كتبًا مطبوعة.
ولكن يبدو أن عبية قد حسم أمره أكثر في تقديم نفسه ككاتب تلفزيوني بعدما قدّم أعمالًا مهمّة مثل: "بطلوع الروح"، "رسالة الإمام"، "صلة رحم"، إلّا أن حافظ ما زال أكثر نشاطًا كروائي، ومن أبرز أعماله التلفزيونية مسلسل "الشارع اللي ورانا".
وهذا ما دفعنا لسؤاله ما إذا كان يعتبر نفسه روائيًا أكثر، فأجاب: "لا أعرف، كتبت أول قصصي في سن مبكرة. أدركت أن لديّ قصة أريد أن أحكيها دون الانشغال بالوسيط الذي سوف أستخدمه. كتبت بعدها للمسرح وحصلت على جوائز، ثم توقفت حين أدركت أنني لن أضيف شيئًا جديدًا. لا أعرف إن كنت سيناريست دخل مجال الرواية أم العكس، وما يزيد الارتباك أن أولى رواياتي صدرت في العام نفسه الذي شاركت فيه في أول مسلسل.
محمد هشام عبيه
ماذا عن الجمهور؟
ثمة سؤال آخر يمكن ان نطرحه في حديثنا عن الكتابة للشاشة أو الأدب. هل يختلف جمهور الأدب عن جمهور السينما والتلفزيون؟
يجيب حاتم حافظ: "المشاهد التلفزيوني تغيّر في السنوات الأخيرة، ما بين أغلبية من الأجيال كبيرة السن وقطاعات واسعة في الريف والصعيد، هؤلاء يريدون مشاهدة نفس القصص، وبين أقلية اتجهت لمشاهدة المنصات الأجنبية، وبالنسبة لهم التلفزيون صار خارج الزمن. أتمنى أن تتسع قاعدة الفئة الأخيرة ليضطر المنتجون إلى تقديم أفكار جديدة".
ويضيف: "أكثر رواياتي نجاحًا لم يقرأها أكثر من ثلاثة آلاف قارئ، لكنّ مسلسلي الأخير شاهده ملايين. الّا أنني أكتب الدراما، وفي مخيلتي ما قاله أسامة أنور عكاشة عمّا أسماه الأدب التلفزيوني، بمعنى الارتفاع بالدراما لمرتبة الأدب. يكتب الكاتب عمومًا ليشارك جمهوره حكايته، فليس مهمًّا إن كان يقدّم عمله لجمهور القراءة أو جمهور المشاهدة طالما يأخذ عمله على محمل الجدّ".
حول السؤال نفسه أجاب محمد هشام عبية: "المتفرج اليوم أكثر ذكاء ووعيًا وأكثر تقبّلًا للأفكار التي كان يرفضها في السابق. وهذا التغيّر الإيجابي ناتج من تراكم خبرات الفرجة. وبطبيعة الحال الذائقة تتطور مع تطور الصناعة نفسها. ثم جاءت المنصات الأجنبية والعربية ولعبت دورًا مهمًا في الارتفاع بسقف توقعات المتفرج العربي. لذلك أعتبر كاتب السيناريو هو جسر مهمّ بين جمهور الأدب وجمهور الشاشة، وعليه أن ينتقي الأعمال الجيدة ويجعلها متاحة لجميع الشرائح".