عبد الله محمدي - كاتب موريتاني
مازال بوسع المرء أن يقول الكثير عن أصيلة، ليس كمدينة صغيرة تمتد بجذورها إلى تاريخ بعيد ، ولكن كمدينة معاصرة مميزة، تسهم برجالها وقادتها وزوارها في صنع ملامح مميزة للحاضر.
هذه المدينة الشاطئية المرتمية في أحضان الأطلسي تهب زوارها، وبانتظام سنوي لا يتخلف عن الموعد، موسما ثقافيا باذخا قل نظيره اليوم في المدن الشاطءية للمتوسط أو الأطلسي.
منذ أن بدأ محمد بن عيسي رئيس منتدى أصيلة مغامرته الجريئة صحبة الفنان التشكيلي محمد المليحي، ومنذ أزيد من أربعة عقود، في جعل الثقافة رافدا للتنمية،والعرب عاجزون عن صنع مثيل، ليس بسبب نقص الإمكانيات أو نكوص الإرادة السياسية التي تستشرف مكاسب المستقبل، ولكن بسبب غياب تلك الرؤية النفاذة التي تترجم الرغبة في تحويل الثقافة بمنظورها الشامل إلى أداة للتنمية، ومثل هذه الرؤية النفاذة هي ما حفزت محمد بن عيسى على تحويل الفكرة إلى فعل، والحلم إلى حقيقة منظورة.
هل تم هذا بسبب فرادة الرجل وتجربته الغنية التي اكتسبها كفنان وإعلامي ومفكر عبر تجواله وشبكة معارفه ومسؤولياته الحكومية بما فيها تلك التي تقلدها في بعض مرافق الأمم المتحدة؟ ام بسبب الهبة التي وهبها الله للمغرب، وكانت سياقات الحياة الثقافية المغربية منذ نهاية السبعينيات من القرن الماضي، بصراعاتها وتنوعها وأفق انتظارها ، هي الوصفة التي منحت التألق لمشروع ثقافي بدأ ناضجا وانطلق تقريبا من لا شيء، وتعلم المشي والقفز على الذات لتجاوز الصعوبات الأولى وسوء الفهم، قبل أن يصير هذا المشروع الثقافي المندمج في حياة المدينة "علامة دولية مسجلة" يحتذي بها؟
والأن، ها هي أصيلة تنهض كل صباح، وتبدو كما لو كانت إحدى المدن الفاضلة: مدينة صغيرة، هادئة، مستسلمة للشمس والبحر، وسكان طيبون ومتسامحون، أزقة نظيفة وبناءات ودور ببواباتها وشبابيكها وشرفاتها تحيلك إلى الطابع الأندلسي العتيق لتصميم المدن، هندسة تبدو محتشمة في الظاهر، متشابكة مع أحواض النباتات البيتية المعلقة خارجها ومع أصص الزهور المنعشة للحواس ، إلا أن باطنها الخفي يحبل أيضا بجمال ورقّة فريدين، خصوصا لمن أسعده الحظ وولج هاته البيوت، أما الجدران التي تشكل مساحات ظاهرة للعيان، فهي مزينة بجداريات رسمها فنانون أتوا من مختلف بقاع العالم.
وقرب "قصر الريسوني" البديع، الذي هو بمثابة متحف حي، بنضارته التي لا تشيخ وبفسيفسائه ومصاريعه الخشبية المحفورة النادرة، حيث توجد المحترفات الفنية، يعكف الفنانون التشكيليون بمختلف مشاربهم داخل الورشات على إنجاز أعمال لصالح المدينة.
وعلى امتداد السور التاريخي الذي يحوّط المدينة القديمة كالسوار، تصطف المقاهي والمطاعم من مختلف الأصناف، ولا يوقف امتدادها إلا الخيرات وأصناف من المشهيّات المعروضة على الأرصفة والمحلات الشعبية، حيث نساء الجبل تراهن مزينات بلباسهن المخطط الملون، واضعات على رؤوسهن قبعات تجعلهن شبيهات بالميكسيكيات، يعرضن أصنافا من الجبن البلدي، إلى جانب كميات صغيرة من الخضر والفواكه الطبيعية ، وهي المنتوجات التي جادت بها الأحواض الصغيرة أمام أمام بيوتهن في سفوح الجبال القريبة أو على أطراف المدينة.
ودون الدخول في جزئيات التفاصيل عن ما تحضنه المدينة من مرافق ثقافية كمكتبة الأمير بندر التي تحتوي إضافة إلى تجهيزاتها المتقدمة على جناح خاص بكتب وأنشطة الأطفال الفنية، توجد قاعات وفضاءات مفتوحةمخصصة للعروض الموسيقية ، ولعل مركز الحسن الثاني للملتقيات الدولية ،هو الأكثر شهرة بحكم وجوده على ملتقى شوارع وأحياء المدينة، ومعطم الأنشطة الثقافية للموسم تجرى به، بما فيها الندوات الكبرى ومحاضرات الضيوف والمعارض الفنية، وكذا احتفالية تقديم جوائز الملتقى في الرواية والشعر، إلى جانب احتفالية تكريم الأهالي ، وهي مجهزة على أحدث طراز، ويكفي ان نقول إن هنا في أصيلة ثمة حالة فريدة قادرة علي المقاومة وإبداع الممكن، رغم الرداءة التي تنفث سمها في كل مكان من هذا العالم العربي.
ظل صيف المدينة منذ أربعة عقود موعدا تضربه النخبة الثقافية في الأوطان والشتات لتلتقي في دروب هذه المدينة الصغيرة، يستمع بعضها لبعض ، ويفتحون بذلك أفقا جديدا لأفكارهم ولإبداعاتهم القادمة من طي الغيب. يلتقي أيضا الكتّاب والمثقفون العرب مع نظرائهم من ذوي الصيت وعمق التجربة ، والمنتمين إلى مختلف الثقافات والقارات واللغات، دون أي شعور بالنقص أو انكفاء على المركزية الثقافية الغربية، يأتون من إفريقيا وآسيا ومن أميركا اللاتينية ، وبعضهم له تجربة سابقة في الحكم أو له مناصب ذات تأثير على قرارات من المستوى الدولي، يأتون لتتلاقح الأفكار ولتكسير الحدود الوهمية أمام الطموح الانساني الراهن لصوغ عالم أكثر إنسانية، وأكثر وعيا بأزماته وعوائقه ، عالم يطمح إلى العدل والكرامة وضد الظلم الذي يلحق الشعوب المضطهدة أو المغلوبة على أمرها، ويتم التعارف والتلاقي بين منتجي كل أصناف المعرفة وشتى ضروب الإبداع،وينسجم العقل مع المشاعر الانسانية النبيلة في إيقاع لا مثيل له ، وتلتقي الموسيقى مع الصباغة على الجدران حيث تخاطب العين والأذن بلغة الوجد والحنين وتوق الروح إلى المجرد، وتجد تلك اللوحات التي رسمت على تلك الجدران البيضاء الناصعة للمدينة حياة جديدة في قلوب مشاهديها.
منذ ابتدأ ظل موسم أصيلة الثقافي كتلة واحدة متصلة على مدى شهر كامل من الأنشطة، حتى قرر محمد بن عيسي عمدة المدينة وصاحب المهرجان أن يقسم الموسم والفرجة والمتعة الفنية إلى قسمين، أو مرحلتين:
مرحلة الصيف المخصص للجانب الفني والتشكيلي ، أما حين يطل الخريف فيلتقي المثقفون والمفكرون على مدى ثلاثة أسابيع يناقشون فيه هموم الأمة وتحديات الواقع ورهبة المستقبل، تكون وقتها تباشير الربيع قد لاحت وتفتقت البراعم في أطراف المدينة وفي النفوس، وتأمل تلك الكلمات والأفكار التي تلقى على مستمعيها في انتظار أن يمر الشتاء ويجد الربيع له طريقا إلى أرض الواقع، وإلى العقول المتمسكة بالأمل في وضع أحسن.
اليوم، تعبر أصيلة بكل هدوء وثقة الى موسمها الخامس والأربعين وهي تقول للعالم مازال للعمق والجمال عنوان، فاذهبوا الى حيث شئتم.