السيرة الهلالية "سيرة بني هلال" هي السيرة التراثية الأكثر شهرة، والأخصب رسوخاً، في الضمير الجمعي، والأبرز حضوراً في الذاكرة العربية، حتى يومنا الحالي. وقد تم تسجيلها في قائمة التراث غير المادى في منظمة اليونسكو عام 2008.
وتحكي السيرة الهلالية عبر آلاف الأبيات الشعرية تغريبة أهل قبيلة بني هلال، وخروجهم من ديارهم في عالية نجد أو نجد العليا في شبه الجزيرة العربية التاريخية، في القرن الخامس الهجري، الحادي عشر الميلادي.
بالإضافة إلى أهميتها التوثيقية التاريخية، فإن السيرة الهلالية ملحمة إبداعية إنسانية رفيعة، إذ تحتوي على نماذج فريدة من الحكايات والنوادر والبطولات والوقائع، المشحونة كلها بالخيال الشعبي الخلاق، وعلى رأسها قصة الأمير أبو زيد الهلالي.
ومع تعدد روايات السيرة الهلالية في الشام ومصر ودول شمال أفريقيا وجنوبها، وفي بلدان وأقطار أخرى مختلفة، يثار السؤال: لماذا لا توجد رواية أو روايات خليجية للسيرة الهلالية، رغم أن أحداثها قد انطلقت من نجد، مروراً ببلاد السرو (منازل حمير في اليمن)، والعراق، قبل أن تصل إلى تونس في نهاية المطاف؟!
وهذا السؤال المهم يطرحه للنقاش، ويسعى إلى الإجابة عنه الشاعر والباحث المصري فتحي عبد السميع في كتابه "التراث الخفي.. الأسطورة السومرية والرواية الخليجية للسيرة الهلالية" (دار وعد، القاهرة).
وقد أهدى المؤلف كتابه إلى ثلاثة من رواة السيرة الهلالية الكبار، وهم كل من: جابر أبو حسين، وعلي جرامون، وسيد الضوي.
ذوبان الملامح
في عمله الجديد، يتطرق فتحي عبد السميع إلى حل لغز غياب الرواية الخليجية للسيرة الهلالية، في إطار ما يسمّيه في عنوان كتابه "التراث الخفي". وما يقصده عبد السميع، الحاصل على جائزة الدولة للتفوق في مجال الآداب، بهذا التراث الخفي، هو ما يتم نقله من مادة تراثية قديمة إلى مادة تراثية أحدث منها بقرون طويلة، بشكل تكاد تختفي فيه ملامح المادة الأولى أو تعيش على نحو خفي، في ظل طقوس ومناخات سياسية واجتماعية ودينية مختلفة.
من الشواهد على هذا التأويل، أن الأسطورة السومرية مثلاً تعيش بشكل خفي في طيات السيرة الهلالية.
والسيرة الهلالية ذاتها، عند التدقيق في تحليلها وتتبع مفرداتها، هي في حقيقة الأمر ليست عملاً مقترناً ببني هلال وأحداثهم وإبداعهم وحدهم، ولكنها منفتحة تاريخياً ومعرفياً وفنياً على وقائع وإنسانيات متشابكة ومنتمية إلى عصور وأمكنة متنوعة.
تهميش واختفاء
ينظر فتحي عبد السميع إلى التراث كسلسلة حلقات مترابطة. فالتراث لا يبدأ من لا شيء، ولكنه "كحجارة المعبد، التي يتم نقلها لبناء معبد آخر يخص ديانة أخرى، وتبقى الحجارة القديمة محمّلة بمدوّنات أو رموز يتم طمسها بملاط جديد، وكتابة مدوّنات أخرى عليها".
وهكذا، تصبح هذه المواد "تراثاً خفياً"، ويواجه هذا التراث صعوبات كثيرة لكي يظهر، بحيث إن عملية إعادة تجميع تلك المواد، المنتقلة من جماعة قديمة إلى جماعة أخرى، وردها إلى أصولها، غاية في الصعوبة.
يخوض الباحث المصري هذه المغامرة لكشف لغز غياب الرواية الخليجية للسيرة الهلالية، مدفوعاً بحماسته الدائمة إلى الدعوة إلى التفكير في التراث ومراجعته.
ويصل فتحي عبد السميع في كتابه الشيق إلى أن الرواية الخليجية للسيرة الهلالية هي ليست وهماً أو أنها لم تكن موجودة أصلاً، كما قد يظن بعضهم. ولكن الأرجح أنها كانت موجودة وحاضرة بقوة، ويجري تناقلها شفاهة على الصعيد الشعبي، شأنها شأن الروايات الأخرى لسيرة بني هلال.
في ظل ضعف البيئة التي تساعد على ازدهارها، تهشمت هذه الرواية الخليجية للسيرة الهلالية، وتناثرت في حكايات شعبية منفردة كجزء من التراث الخفي، واختفت تدريجياً كسيرة مستقلة. وهنا فإن "جمع تلك الحكايات، ومقارنتها بمثيلاتها في السيرة الهلالية، يساعد على تجميع الرواية الخليجية للسيرة الهلالية".
الشعبيات الخليجية
يبرهن فتحي عبد السميع نظريته بشأن حضور السيرة الهلالية في الحكايات الشعبية الخليجية، بكثير من الشواهد والنماذج. منها مثلاً حكاية "العقيلي واليازية"، من التراث الشفاهي الإماراتي التي جمعها وأعدّها ووثّقها الباحث الدكتور راشد أحمد المزروعي.
وتبدو حكاية "العقيلي واليازية" مسكونة على نحو ما بروح السيرة الهلالية، وفق رؤية عبد السميع "منذ عنوان حكاية العقيلي، وبامتدادها، لم يتركني الشعور القوي بأنني لا أتابع حكاية يرويها حكّاء خليجي، بقدْر ما أستمع لحكاية يرويها رجل يسكن في صعيد مصر، وبامتدادها. وأنا أتعجب من الروح الواحدة التي تسري هنا وهناك".
لقد حضرت الهلالية في حكاية العقيلي، بإشارة قرب نهايتها، عندما شعر شيخ أعمى بوجود غريب بين أفراد القبيلة، فصاح قائلاً "مخلوطين يا عيال هلال"، أي "بينكم غريب يا بني هلال".
ويعلق موثق الحكاية قائلاً "هناك إشارات غير مؤكدة في القصة على أنها من عصر الهلاليين، وأن أبطالها من قبيلة بني هلال. ولا نعلم بالتأكيد إن كان هلال هذا هو والدهم أو شيخهم، أو أنهم من قبيلة الهلاليين المعروفة، أو أن الحكاية جزء من السيرة الهلالية".
ويوضح فتحي عبد السميع أنه لم يكن في حاجة إلى تلك الإشارة المباشرة، حتى يتلمس الصلة الوثيقة بين الحكايتين. ورغم ورود ذكر أولاد هلال في سياق لا يتناغم مع شعوره القوي بأن الحكاية الخليجية تنتمي إلى السيرة الهلالية، فإن ذلك لم يؤثر فيه. وهكذا راح يتمعن مرة أخرى في الحكاية، ويقوم بتفكيكها، وتشريحها، من أجل الوصول إلى الصلة القوية التي تربطها بالسيرة الهلالية.
ينتهي الباحث المصري إلى أنه في أثناء تفكيكه الحكاية إلى عناصر صغيرة، بدأتْ تظهر أمور كثيرة تؤكد الشعور القوي بتشابه الحكايتين، حيث إن "مادة الحكايتين واحدة، رغم اختلاف الصياغة، ورغم اختلاف أسلوب تعامل مبدع الحكاية مع تلك المادة الموجودة في الحكايتين".
وبالتالي، وبغض النظر عن أن حكاية العقيلي الإماراتية أو الخليجية تبدو في شكلها الحالي حكاية مكتملة بذاتها، فإنها، من جهة أخرى، تمثّل جزءاً من سيرة شعبية طويلة ومفقودة، هي الرواية الخليجية للسيرة الهلالية.
الكاتب فتحي عبد السميع
تفتح مقارنة حكاية "العقيلي واليازية" بحكاية "أبي زيد وعالية" الباب واسعاً لاستكمال رواية السيرة الهلالية في الخليج، من خلال المزيد من البحث في الحكايات الشعبية الصغيرة، ومقارنتها بالسيرة الهلالية المعروفة، مقارنة تنفذ إلى الباطن العميق للحكاية، ولا تستسلم للعوائق المضللة، مثل الأسماء والأماكن، والتفاصيل التي تحمل أثر البيئة.
فالبطل، كما يرى فتحي عبد السميع، يمكن أن يسمّى الهلالي أو العقيلي أو أي اسم آخر، وأيضاً بقية أشخاص الحكاية، لأن الأسماء قد تكون حجاباً. كما يجب أن "تتسلح المقارنة بالنظرة الرمزية، التي تستوقف كل كلمة وكل سلوك باعتباره رمزاً، ثم تبدأ في تحليله تحليلاً عميقاً".
وينتهي الباحث المصري إلى أن ربط السيرة الهلالية بقبيلة بني هلال خطأ، وربطها بالأحداث التاريخية التي ترتبط بالقبيلة خطأ، لأنها "عمل فني متخيل في المقام الأول والأخير، وهي تلبي حاجة وجدانية لشعوب المنطقة ككل، بل لكل إنسان".
وهكذا، فإن حكاية العقيلي واليازية هي حكاية أدبية متخيّلة، مثل كل روايات الهلالية، أو أنها جزء من السيرة الهلالية نفسها، ويجب التعامل معها على هذا الأساس. والهلالية "ليست سيرة قبيلة، بل سيرة كل الأماكن التي عبَرتها من العراق إلى المغرب، ومن شمال أفريقيا حتى جنوبها".
وكل جماعة تعلقت بالسيرة الهلالية أضافت إليها من روحها، فالراوي في النهاية يروي ما يحبه الجمهور، والجمهور يحب ما يلامس وجدانه، ويعبّر عن أشواقه وأحلامه وانكساراته. وإن "جمهور السيرة لم يكن من بني هلال، بل كان جمهوراً عاماً، يشمل قبائل كثيرة".