في الجزء الأَول من هذه الثلاثية، سردتُ السيرة الشخصية لروزا بونور Bonheur (1822-1899) الرسامة الفرنسية التي اقتحمت تقاليد عصرها بريشتها المبدعة.
وفي الجزء الثاني أَوردتُ عددًا من لوحاتها الخالدة وما كان من دافع لرسم بعضها، توصيةً أَو تقديرًا، وكيف معاصروها أَقرّوا ببراعة ريشتها في لوحاتها الواقعية النهج والفكرة والتعبير.
في هذا الجزء الثالث الأَخير أَختم بباقة أُخيرة من لوحاتها.
خرفان على الشاطئ (1865)
وضعت روزا هذه اللوحة بطلب من الأَمبراطورة أُوجيني (1826-1920) زوجة نابوليون الثالث (بين 1853 و1570). ومع أَن الخرفان من الحيوانات الأَليفة، جعلتْ روزا لوحتها من دون عنصر بشري معها. وعن مؤَرخي الفن أَنها استوحت فكرة هذه اللوحة من رحلتها إِلى الجزر السكوتلندية سنة 1856. ولأن روزا كانت مهتمةً بعلْم الفلَك، ذكرت كاتبةُ سيرتها وزميلتُها الأَميركية آنّا كْلُومْبْكِه أَن بُرجها هو الحَمَل، لذا وضعت لوحتها هذه عن الحملان الثلاثة لتأْكيد ذاك البُرج.
النسر الجريح (1870)
إِبان سَنَتَي الحرب الفرنسية البروسية (1870-1871) نحَتْ روزا في لوحاتها إِلى الحيونات البرية. فالحرب وما فيها من مآسٍ وكوارث أَبعدَتْها نفسيًّا عن الحيوانات الأَليفة المسالِمة، فكانت هذه اللوحة لنسر جريحٍ في منتصف انطلاقه جوًّا، وإِمكان إِعاقته في رمزية إِلى إِمكان إِعاقة الرسامة عن الرسم وهي في منتصف حياتها التشكيلية. ولم تكُن الطُيور، في أَيٍّ من أَحجامها وأَنواعها، ضمن اهتمام روزا. من هنا فرادة هذه اللوحة عن النسر الجريح في مجموعة أَعمالها عمومًا، بل هي نافرة في موضوعها عن سائر الأَعمال. ويرى بعض النقاد أَنْ ربما رمزَت روزا في النسر إِلى انهيار أَمبراطورية نابوليون الثالث أَمام الجيش البْروسي.
روزا: "النسر الجريح"
ملك الغابة (1878)
الظُبى إِجمالًا كانت موضوعًا يحبُّه الرسامون ويعملون على نقلها إِلى قماشتهم البيضاء، تلفتُهم قُرونُها المتفرعة العالية فيروحون يتفنَّنون في رسم تفاصيلها وتدويراتها وانفلاتها في الفضاء، كما حصل مع الرسام الإِنكليزي إدوين لِندْسير (1802-1873) في لوحته الشهيرة "مملكة الوادي" (1851). هكذا استأْنست روزا برسم الظبى والغزلان طيلة حياتها. سوى أَنها ظلَّت تذكُر بأَن لوحة "ملك الغابة" هي أَجمل لوحاتها عن الغزلان والظُبى.
روزا: "ملك الغابة"
"السيد" (1879)
كانت روزا تحب هيبة الأَسد وقوَّته وبطشه في عين المتلقّي. لذا كانت تتردَّد على حديقة الحيوانات في باريس وتتفرَّس في حركات الأَسد وتحرُّكه وتمايل النور والظل على جسده وهو يمشي في الفسحة أَو وهو جاثم على أَرض تلك الفسحة. وإِذا في لوحاتها الأُخرى عن الأَسد رسمَتْه أَقرب إِلى شكله الحيواني، أَرادت من لوحتها هذه أَن تُظهر له انطباعًا أقرب إِلى المنحى البشري، من حيث نظرتُه وتفرُّسُه. ويرى النقاد أَن اسم اللوحة ذاته ("السيد") يرمز إِلى إِسبانيا التي تسمي الأَسد "السيد" (El Cid). وبالفعل، ذهبت هذه اللوحة هديةً إِلى متحف "برادو" في مدريد سنة 1879. وكانت روزا يومها في عز شهرتها العالَمية، فاستحقَّت على هذه اللوحة "وسام الملكة إِيزابيلَا الملكي".
"ثيران على الثلج" (1897)
تركِّز هذه اللوحة على حب روزا عالَمَ الحيوانات، وخصوصًا تلك البريَّة منها. وصداقتُها مع الضابط الأَميركي الكولونيل وليام كودي (1846-1917) إِذ تعرفت إليه في باريس، وراحت تزور فيها مخيمه الخاص بالثيران، وتضع مخططات مباشرة للثيران لديه في المخيم. ولأَنها كانت تعلم عن ماضي صيد الثيران وقتْلها في أَميركا، وتاليًا عن حرمان الأَميركيين الأَصليين من مصدر رزقهم وطعامهم وكسْوَتهم، وضعَت هذه اللوحة وجعلت الثيران يتحرَّكون على الثلج بعيدًا عن بنادق القناصة.
روزا: "ثيران على الثلج"
مجهولة بين معلومين
ختامًا: غابت روزا بونور سنة 1899، تاركة إِرثًا تشكيليًّا ثريًّا من عالَم الحيوانات في لوحاتها، جعلَها تعود من جديد إِلى الضوء بعَرض لوحاتها في متاحف أَميركا وأُوروبا، هي التي سطعَت لامعةً في عصرها ثم غابت مجهولة بين معلومين من الرسامين الرجال.