في سماء الفن، التمع عدد من النجوم بسرعة البرق، وما بين طرفة عين وغمضتها، اختفت. كمن يريد "الاحتفاظ بهذا الجمال على حاله وإلى الأبد"، كما يصف يوسف وهبي في حوار سابق. لا شك بأن أسمهان واحدة من أشهر هؤلاء العابرين، والتي رحلت عن عالمنا قبل ثمانين عاماً في صيف عام 1944، عن عمر يناهز 32 سنة.
وبرغم قصر المدة، عاشت أسمهان حياة صاخبة فتحت المجال لكواليس لا حصر لها تعج بالمؤامرات وقصص الحب والخيانة، سنوات متباينة من الشقاء والرفاهية على حد سواء، تخللها عدد من الزيجات المختلفة والمتنوعة التي انتقلت بها من بلاط الحكام والأمراء إلى جنبات الأستوديوهات وعوالم صاحبة الجلالة.
ولدت "أسمهان" في نوفمبر/تشرين الثاني سنة (1912)، وكما فاجأت الجميع بموتها الدرامي، لم تخلُ لحظة ميلاد سليلة عائلة الأطرش من دراميتها الخاصة.
أنشودة الحياة والموت
في مطلع العشرينات هرب فهد الأطرش (الأب) إلى بيروت خشية اعتقاله من العثمانيين، إلا أن المخاض فاجأ الأم عالية المنذر وهم جميعهم في عرض البحر. عرض الأب تسمية المولودة "بحرية" بينما اقترحت الأم اسم "آمال" كبشارة للعودة إلى ديارهم. لكنّ الرياح تأتي بما لا تشتهي السفن، فاشتعلت الحرب بدخول فرنسا واضطر الأب لأن يعود إلى الجبل مرة أخرى، وكان على الأمّ زيارة مصر، خصوصاً بعد تهديد بالاعتقال، في صحبة أولادها الثلاثة: فؤاد، فريد، آمال الأطرش، مقتبل العشرينات تقريباً.
التحق فريد بمعهد الموسيقى بعدما ورث حلاوة صوت والده، فيما كانت الأم تجيد العزف على العود، علاوة على تمتعها بصوت لا يقل حلاوة، لذلك لم يكن من الصعب أن تنتقل الجينات إلى أبنائهم وتتطور معهم، علماً أن الأب تزوج أكثر من مرة وأنجب ما يزيد عن خمسة أطفال. أمّا علياء فلم ينقطع عن بيتها كبار الملحنين مثل محمد القصبجي، زكريا أحمد، وداود حسني، الذي استمع إلى صوت آمال ذات مرة فتعجب له، وعرض على الأسرة أن يدعم ابنتها ويؤهّلها لتكون نجمة في الغناء واختار لها اسم "أسمهان"، وهو اسم فنانة شابة عمل حسني على تدريبها غير إنها ماتت فجأة.
في ذلك الحين كان صيت فتحية أحمد يتخطى الحدود، وربما كان ذلك هو السر وراء اندهاش أفراد أسرة الأطرش من طلب داود حسني؛ فأين هي من مناطحة "مطربة القطرين" كما كان يطلق عليها!
أخبرهم حسني بأن صوت الفتاة المتوفاة يتشابه مع صوت ابنتهم، لذا اختار أن يدعوها باسم الفتاة "أسمهان"، وذلك وفق ما ورد في حوار مع "فؤاد الأطرش"، الشقيق الأكبر، في البرنامج المصري "شموع".
في سياق آخر، يحكي "فريد الأطرش" في حوار إذاعي قديم أن البداية لأسمهان كانت مع شركة "كولومبيا"، والتي أرسلت لجنة لاختبار صوتها، ما نتج منه إبرام عقد لتسجيل أغنيتين يقوم فريد بتلحينهما وهما: رجعت لك يا حبيبي، نويت أداري آلامي.
وكما تميز فريد بجملة موسيقية لا تختلف عن اسمه، برعت أسمهان في تلوين صوتها وتشكيله بفرادة ربما كان من الصعب تكرارها، فهي أشبه بالماء الذي يمكن تشكيله في أكثر من قالب. كان ذلك بمثابة كنز ثمين لكلا الطرفين: المستمعين والملحنين، ما أغرى بعضهم لخوض مساحات صوتية مغايرة، خصوصاً مع صوت بتلك الشخصية، كما حدث في تجربة القصبجي حين لحّن أغنية "يا طيور" التي قدمت فيها أسمهان ما يشبه استعراضاً صوتياً يتأرجح بين الشرقي والسيمفوني، وفي فيلم "انتصار الشباب" ظن المستمعون أن دندنتها ليست سوى صوت آلة الكلارينت.
لحن للفقيدة
قدمت "أسمهان" أكثر من أربعين أغنية ورصيد سينمائي هو ثلاثة أفلام، حين شاركت في فيلم "يوم سعيد" (1940) بالصوت فقط، وشدت بأغنيتين من ألحان "محمد عبد الوهاب"، بطل الفيلم، وهما: محلاها عيشة الفلاح، وأوبريت مجنون ليلى.
في فيلميها التاليين: "انتصار الشباب" (1941)، "غرام وانتقام" (1944)، ملاحظ أجزاء من سيرتها وحياتها الشخصية. في الفيلم الأول نتابع قصة "نادية ووحيد/أسمهان وفريد، أي أخ وأخته من الشام يرحلان إلى مصر لشق طريقهما الفني، إلا أن الفتاة سرعان ما تتزوج من أحد الوجهاء بعدما خطوَا خطواتهما الأولى فتنقطع عن الغناء ثم تعود إليه بعد فترة، وهو ما تكرر في الحياة الشخصية لأسمهان؛ بداية من الرحلة الفنية للأخوين والتي شهدت انقطاع أسمهان في البداية بعد زواجها من ابن عمها الأمير "حسن الأطرش" (1933) وحصولها على لقب أميرة.
أما الفيلم الثاني، فيتماس كثيراً مع حكاية زواجها الأخير من أحمد سالم، أول مذيع في الإذاعة المصرية وأول من أطلق العبارة الشهيرة "هنا القاهرة". كان سالم شديد الغيرة على زوجته الجميلة، ما جرّه إلى إطلاق أعيرة نارية في مشاجرة أودت بحياته. لم يكن أمام أسمهان حينئذ سوى بعض المشاهد الختامية في فيلمها الأخير "غرام وانتقام"، لكنها لم تستطع استكمال التصوير فاستأذنت يوسف وهبي في بضعة أيام للراحة وسافرت إلى "رأس البر"، وفي الطريق انحرفت سيارتها وسقطت في النيل، تاركة وراءها لغزاً لم يُحل حتى الآن.
لم يكن غريباً أن يتصدر اسم أسمهان تتر الفيلم تحت عنوان "فقيدة الفن". اشترك في التمثيل أنور وجدي، محمود المليجي، زوزو ماضي، اقتباس وتمثيل وإخراج يوسف وهبي.
يتبين من قصة الفيلم والأحداث، اتكاء وهبي على قبس من حياة "أسمهان" من خلال دراما مغايرة، لكنها تحافظ على الثيمات الرئيسة: مطربة تعتزل من أجل الزواج وتترك الحسرة لمحبيها، غيرة وخيانة وقتل يصاعد من وتيرة الأحداث حتى يبدل مجراها، وأخيراً النهاية الفاجعة، ومن المؤكد أنها لم ترد في السيناريو الأصلي للفيلم وقد أطلقت حولها العديد من الشائعات.
على الأغلب، لجأ يوسف وهبي إلى تغيير التيمة الرئيسة للفيلم، خصوصاً وقد خلفت أسمهان برحيلها عدداً قليلاً من المشاهد غير المنتهية استعان المخرج في بعضها بـ"دوبلير"، لذلك أُخذت غالبية تلك المشاهد من خلال لقطة واسعة، بعيدة عن تحديد الملامح. من تلك المشاهد أغنية "النشيد العلوي" والتي يؤكد الباحث المصري محمد دياب أن "يوسف وهبي" حصل حينها على لقب "البكوية" من الملك فاروق الذي كان حاضراً في إحدى الحفلات، ويبقي المشهد الأخير في الفيلم بمثابة "الماستر سين" الدرامي والحياتي على حد سواء.
أُجبر المخرج على موت البطلة في النهاية، ما تطلب عربة وجثة وبعض الرجال، ظهر من بينهم المخرج حسن الإمام وكان يعمل مساعداً وقتها، من ضمن من يحملون جثة الفقيدة، أما عن الجثة والتي لم تخرج عن قطعة إكسسوار عادية، فأشيع عنها الكثير من الحكايات والأساطير، حتى أن شهود عيان أكدوا أن المخرج استعان بالجثة الحقيقة لأسمهان في تصوير المشهد!