بعد مرور أكثر من 7 عقود على وفاته، لا يزال توماس إدوارد لورنس، أحد أكثر الشخصيات غموضًا وإثارة للجدل في القرن العشرين، وعلى الرغم من عشرات السِير والعدد الذي لا يُحصى من الدراسات الأكاديمية، وما لا يقلّ عن ثلاثة أفلام، فإن المؤرخين لم يستطيعوا قط أن يقرّروا ماذا يمكنهم عمله بخصوص ذلك الشاب، وباحث أكسفورد الخجول، والذي انطلق إلى ساحة الوغى على رأس جيش عربي وغيَّر التاريخ.
في كتابه "لورنس في جزيرة العرب: الحرب والخداع والحماقة الاستعمارية وصناعة الشرق الأوسط الحديث"، اجتهد الكاتب الصحافي والروائي الأميركي سكوت أندرسون، في جمع شتات هذه الشخصية، لكنه مع ذلك لم ينجح في فضّ هالة الغموض التي تلفّها، ما يجعلها صالحة للمزيد من الجهد في السياق ذاته إلى أجل غير معلوم.
هذا الكتاب صدر بالإنكليزية عام 2014، وترجمه أخيراً إلى العربية محمد صبري الدالي لحساب المركز القومي المصري للترجمة، فجاءت هذه النسخة العربية في نحو 800 صفحة من القطع فوق المتوسط.
وفي مقدمته لهذه الترجمة رأى الدالي أنه "إذا كان بعض القراء قد يتصور أن الكتاب يؤكّد بطولة وأسطورية لورنس، إلّا أن ما ورد فيه سيؤدي في النهاية إلى التشكيك في بطولته، لا إلى تثبيتها.
لم يكتف الدالي، وهو أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر في جامعة حلوان، بترجمة هذا العمل الضخم، فكتب له مقدمة تتضمن العديد من الملاحظات على متنه.
غايات الغرب
وعلى الرغم من تلك الملاحظات، فإن الدالي يرى أننا بصدد واحد من أهم الكتب التي تناولت لورنس العرب، مستندًا إلى العديد من الأسباب، ومنها "ضرورة الإبقاء على حضور الوعي العالمي عامة، والعربي خاصة، في ما حدث في أجزاء عزيزة في بلادنا العربية في تلك المرحلة من تاريخها، وكيف تمَّ التلاعب بها لتحقيق غايات الغرب والصهيونية.
يُعدّ هذا الكتاب - وفق المترجم - "محاولة غربية جديدة لفهم ما قيل عن أسطورة لورنس التي صاغها الغرب نفسه. وربما قلنا إن الكتاب حاول كشف مزيد عن تلك الشخصية في سياق فضح سياسات القوى الاستعمارية الغربية في المنطقة، وبشكل أكثر موضوعية مما كان من قبل.
من هنا يطرح الكتاب الكثير من الأضواء المهمّة – والجديدة أحياناً – على ما حدث في المنطقة في تلك المرحلة. والأهم من ذلك أن مؤلف الكتاب أميركي الجنسية؛ بمعنى أنه لا يمكن اعتباره متحيّزًا للعرب ومتحاملًا على الغرب والصهيونية".
تعود أهمية الكتاب – في تصور المترجم - إلى اعتماد مؤلفه على الكثير من الوثائق التي أتاحتها الأرشيفات في المملكة المتحدة والولايات المتحدة وألمانيا وغيرها، ناهيك عن اعتماده على الكثير من المذكرات واليوميات والدراسات الحديثة.
يُطلق أندرسون التساؤل: كيف أصبح لعالم آثار من أكسفورد، "جبان بشكل مفجع"، ولم يقض يومًا واحدًا في التدريب العسكري، أن يصبح قائداً لجيش ثوري أجنبي في ساحة القتال، وخبيراً سياسياً استراتيجياً تنبأ بالكثير من الأحداث المأساوية التي ستحدث في الشرق الأوسط؟
الثورة العربية
الإجابة المختصرة بحسب المؤلف قد تبدو مخيّبة للآمال إلى حدّ ما، وهي أن لورنس – الذي عُرف في حياته بالعديد من الأسماء – تمكَّن من أن يصبح "لورنس شبه الجزيرة العربية"، لأنه لم يكن هناك من يهتم كثيرًا بأمره وأمر هذه المنطقة.
في المجزرة الكبيرة التي حدثت في أنحاء أوروبا خلال الحرب العالمية الأولى، كان لمسرح تلك الحرب في الشرق الأوسط أهمية ثانوية بشكل واضح. وداخل هذا المسرح كانت الثورة العربية التي أصبح لورنس منضمًا إليها – وفقًا لتعبيره – بمثابة "شيء ثانوي تابع لشيء ثانوي".
فمن ناحية أرواح الناس والعتاد والأموال التي أُنفقت، ومن حيث آلاف الساعات التي مضت في التشاور بين الجنرالات والملوك ورؤساء الحكومات، كان المتآمرون الاستعماريون في أوروبا – مثلًا – أكثر اهتماماً وقلقاً بخصوص الوضع المستقبلي لبلجيكا، مقارنة بقلقهم على ما يمكن أن يحدث في مناطق الشرق الأوسط البعيدة والفقيرة.
وبناءً على ذلك، كان من وجهة نظر مخطّطي الحرب البريطانيين، أنه إذا تُرك ضابط صغير ليعمل وفق رغباته الخاصة، فإنه يمكنه القيام بتنظيم القبائل العربية العنيدة من أجل إرهاق عدوهم التركي، وأن شيئاً مفيداً سيحدث نتيجة لذلك.
وكان من رأيهم أيضًا، أنه لن يطول الوقت إلّا وستزداد أهمية كل من الشرق الأوسط والثورة العربية بالنسبة الى بقية العالم، بيد أن هذا الرأي في الواقع كان احتمالًا جرى التفكير فيه بالكاد آنذاك، أو بالفعل كان احتمالًا من الصعب تخيّله.
مستشرق صغير
قامت بنية الكتاب على أساسين رئيسيين: الشخصيات التي عملت في "مسرح" المنطقة العربية قبيل الحرب العالمية الأولى وفي أثنائها وما بعدها، ثم الأحداث والقضايا المهمّة التي انخرط هؤلاء الأشخاص فيها، حتى لقد جرى - كما يقول الدالي – الربط بين القضايا والأحداث والشخصيات بشكل وثيق وواضح، وفي إطار علاقات سببية بعينها.
وأهم هذه الشخصيات بما أن الكتاب عنها، هو توماس إدوارد لورنس، ويراه المترجم، "مستشرقًا صغيرًا يمثل المشروع الغربي، وإن انتابته هواجس أخلاقية وإنسانية وواقعية، حتى ليبدو وكأنه انقلب أحيانًا على مشروع بلاده الذي جاء من أجله إلى الشرق، وعمل في فترة منه تحت ظل "صندوق استكشاف فلسطين". مؤلف الكتاب ليس – كما يقول الدالي – مؤرخًا أكاديميًا محترفًا بالمعنى المتعارف عليه، بل هو في الأساس صحافي استقصائي ومراسل عسكري وروائي. لكنه – يضيف المترجم – قارئ ممتاز للتاريخ، ولاسيما في إطار صلته بالأدب.
هو في هذا، كما لاحظ الدالي، يشبه لورنس في مواقفه المتعاطفة مع القضايا العربية، وفي مواقفه الإنسانية ورفضه – إلى حدّ ما – لأفعال الاستعمار الغربي في المنطقة العربية، ورفضه للقتل الشنيع خلال الحرب، "وربما كانت هذه التشابهات هي ما أعطت الكتاب قدرًا من الانسجام بين المؤلِف والمؤلَف عنه" (ص 8).
أخذ الدالي على المؤلف عدم الرجوع إلى المصادر العربية إلّا نادراً، فجاء الصوت العربي خافتًا للغاية أو غير موجود، وأخذ عليه كذلك كثرة اعتماده على "الرواية الشخصية" لـ "أبطال" كتابه، وهكذا فإنه راهن على الرواية الغربية للأحداث بأكثر ما راهن على الرواية الأخرى "الشرقية"، مع أن الشرق بقضاياه هو الأهم في الكتاب. ولهذا قام بالتهوين أحيانا من تضحيات العرب وجهودهم الحربية لمصلحة تضخيم جهود وتضحيات لورنس والإنكليز والهنود. فإذا كان هذا الكتاب ليس موضوعيًا أحيانًا في طرحه لبعض القضايا، فلماذا يُترجم؟ طرح الدالي السؤال وأجاب عنه بأنه من المهم أن نفهم ماذا يكتب الآخر عنَّا، بل الأهم: كيق ولماذا يكتب عنّا؟ وهي قضية ثقافية في غاية الأهمية.