هل فكّر الروائي المصري إدوار الخراط (1926ـ2015) لدى إصداره كتابه: "أمواج الليالي" (1991) ووضع على غلافه نوع "متوالية قصصية" أنه سيطرح في سوق الأدب العربي الحديث بضاعة أو "بدعة" غير مسبوقة؟ وأن هذا النوع سيجد بعد رحيله ورثة يتداولونه؟ أم أنّ الأمر اقتصر عنده على نزوة، طرز كتابة تجريبية، هو من نذر أدبَه لعديد التجارب والطرائق الفنية، وفي الرواية شقّ عصا الطاعة على المعلم نجيب محفوظ (1911ـ 2006) بروايته المجددة "رامة والتنين" (1980) وأحاط تجديده بتربية جيل مختلف، وذائقة أدبية مغايرة، بصمَها باسم "الحساسية الجديدة" أثمرت كتاباً مثل إبراهيم أصلان (1935ـ2012) ومحمد البساطي؟
بالتعريف الموجز والعام، المتوالية القصصية فرعٌ صغير من شجرة القصّ الكبرى. بحكم الاسم إنها تقصّ، تحكي، وطريقته التوالي، أي التتابع، ولكن ماذا يعني هذا؟ نعلم أن كلّ ما يُسرَد مبنيٌّ في السرد الكلاسيكي، خاصة على قاعدة التسلسل، وإذاً هي خاصية عامة مشتركة في الرواية، والقصة القصيرة، والمسرحي، أيضاً. فبم تتميز المتوالية القصصية، إذاً؟ بالرجوع إلى أصولها الغربية، في نصّين مرجعيّين هما "ناس من دبلن" لجيمس جويس (1882ـ1941)، قصص تشترك في بنية مكانية واحدة (دبلن).
إضافة إلى "In Our Time" "في زماننا" (1921) لهمنغواي (1899ـ1961) يجعل من الحرب العالمية الأولى التيمة وفي مضمارها الشاسع يحكي تجاربَ شخصية مركزية (نيك آدمز).
فيما استعمل الناقد الأميركي فورست إنغرام مصطلح (حلقة)، أي الجزء من سلسلة. بإجمال، وإجماع دارسي هذا النوع، فإنه يتمثل في مجموعة وحدات سردية صغرى تتوالى مشكّلةً سرداً أوسع، وتشترك جلّها في الأسلوب والرؤية، لتتراوح بين نوع القصة القصيرة وتقترب من الرواية.
إدوارد الخراط
وعندي أن المتوالية القصصية نوع هجين لا جنس مستقل، وطريقته متفاوتة من كاتب لآخر، ونماذجه محدودة في أدبنا الحديث وإن تستدعي الاهتمام بناءً على تصوّر الكُتّاب له، وحسب تطبيقاته النصية كما نجدها مثلاً في مجموعة "الدكتور نازل" لطالب الرفاعي (2023) جنّسها في الغلاف "متتاليات قصصية" والأخيرة "بلاط مزركش" للمصرية مي خالد (العربي للنشر والتوزيع 2024).
أختار هذه المجموعة لأنها آخر إصدار من هذا النوع، ولاستيفائها ما يتمثل في غيرها ويتحدد من سمات جمالية، نعني أسلوبيةَ وطريقةَ سرد وبناء، وخصوصاً توفّرَ عنصر التواشج الذي يصل القصة بسابقتها ولاحقتها إما بخيط متين وعامل سببي مباشر، أو بالرؤية والإحالة العامة. مي خالد تُصدر مجموعتها هذه، بعد تجربتها للرواية، والقصة القصيرة، والنص الرِّحلي. أخصّ بالذكر "روايات جيمنازيوم" (2016) و"تمار" (2019) و"سرّ العنبر" (2022).
هي كاتبة ذاتُ رصيد، وامتُحنت به موهبتها وقلمها في أشكال ودلالات وألوان بما أنها مولعةٌ بالبحث عن المُتحِف، واقتفاء أثر التليد الخبيء، تكتشفه العين، ويصقله الوصف، فيصبح للشيء حضور البطولة، بهوية الإنسان والتاريخ، وأناقة الجمال بالخطوط والألوان والروائح والظلال. يتأتّى هذا بالذهاب من الكلّ إلى الجزء، من بانوراما الحياة والفضاء إلى بؤرة صغرى ونبشها.
جمالية النص
يختصر العنوان "بلاط مزركش" مادةَ القص وجماليته، بما أنه موضوع وشكل، هنا تُلغى الثنائية التقليدية (= الشكل والمضمون)، وينبغي علينا توحيدُهما، بالنظر إلى الشكل مضموناً والعكس، فلا تكون اللغة والأسلوب أداةً فحسب بل موطنَ اشتغال للأدب في متوالية قصصية. تفتح خالد ذاكرتها، عامرة بالحوادث الصغيرة، والحكايات الطريفة، وبشخوص عاشت في أماكن الطفولة ووسمتها بطباع وثقافة وأنماط حياة وسلوك، في أوضاع فردية، تمثل حالةً ومزاجاً وطريقةَ عيش، وهي مجدولة في ضفيرة واحدة يقود بعضها إلى بعض في تسلسل لا مِرية فيه ولا غموض، فكأنك تشاهد مسرحيةً في كلّ فصل يدخل ممثلٌ ليؤدي دوره ويتفاعل مع ممثلين آخرين ثم ينسحب ليخلفه ممثل غيرُه في دور يُغني المشهد ويضيف معنى ويرسم ملمحاً إضافياً للبطولة الحقيقية ينفرد بها المكان كبيراً وصغيراً، صورةً، لوناً، وبلاطاً مزركشاً.
للوهلة الأولى، نحن نقرأ سلسلة ذكريات مسترجعة أغلبها من زمن الطفولة والفتوة مارّة من مصفاة وعي الكبار، ومشبوبة بشعلة (النوستالجيا) ذلك الحنين إلى زمن البراءات والأماكن الأولى، يصدق عليها قول أبي تمّام: "نقِّل فؤادك حيث شئت من الهوى/ ما الحبّ إلا للحبيب الأوّل/ كم منزلٍ في الأرض يألفه الفتى/ وحنينه أبداً لأول منزل". هكذا تتوالى المنازل في هذه المجموعة تباعاً: "بيت البدو"؛ "شقة الدكتور ملك"؛ "شقة طنت عناية"؛ "بيت طنت نبيلة"؛ "شقة طنت شهيرة"؛ "شقة شبرا"؛ "شقة طنت دولت"؛ "دكان عم شفيق"؛ "بيت نجوى" وهلمّ أماكنَ ومواضعَ يتشكل عمرانُها ويُفرَز أثاثُها وتتنفس جدرانُها وتضوع روائحُها وتتعدد لغاتُها، هي من الكثرة تمتد على مئتي صفحة من الكتاب، لكنها أوسع من هذا وأغنى بالذكرى والشجن.
لاشتغال الذاكرة آليةٌ متسقةٌ على الطريقة التالية: "لا أدري إن كانت ذاكرتي الفولاذية قد احتفظت بتلك الحكاية بالفعل، أم ثبتت في عقلي من كثرة ما ردده أهلي، لكن الشيء الأكيد هو أن تلك الأحداث قد دارت في الشقة التي وعَيت على الدنيا فيها؛ شقة شارع البدو..."(10ـ11). وماذا حدث في هذه الشقة؟ لا شيء غير أن أخرى مجاورة انتحر فيها صاحبُها شنقاً في الدّش، وبدأ أبوَا الكاتبة يسمعان أصواتاً غامضة، وبقيا يتطيّران منها.
المركز والمحيط
هذا خبر استهلال لسرد أخبار الطفولة والجيران والصداقات الأولى للصغار والكبار، البنات مع الأولاد، والآباء بينهم، والسيدات، وكله في محيط الشقة باسم (بيت البدو) بعد الانتقال منها، تبقى المركز والمحيط. يمكن القول إن كثيراً من حكايات وشخصيات القصص اللاّحقة موقعها وخيطها يمتد من هذه القصة الإطار.
تدخل الساردة إلى الشقق وتتجسّس على حيوات من فيها وترويها بمكر بما يكشف دواخلها المادية والسيكولوجية، وإذا كانت تقدم لنا بمهارة وصفٍ وقوةِ ملاحظةٍ ودقةِ تصويرٍ، وبرسم للوحات اجتماعية شمولية انطلاقاً من بؤرة شققٍ وحيٍّ وأزقة، فإنها تبرع في رصد دقيق لحيوات النساء وتصيُّدٍ لتحولات عُمرية ودينية وسلوكية نتوء لتحوّل أكبر في المجتمع. ونحن من قصة لأخرى نتعرف على عالم نسوي بامتياز، بالعين التي تملكها المرأة وحاستُها المخصوصة بها، وعينُها مسحورة دائماً بـ"البلاط الأسمنتي المزركش" وآثار وأغنيات الزمن الجميل، بالحنين الشعري لما مضى حيث تقيم الروح وتكتب سيرتها الذاتية.
أقول بالمختصر المفيد، انطلقت الأديبة المصرية مي خالد من فكرة كتابة قصص بخطة نوع المتوالية القصصية لاسترجاع الذكريات والغَرْف من ينابيع الطفولة والحنين، وبإعادة بناء ما كان عمراناً وأحوالاً وتقاليد وطقوساً وديكورات بيوت ومتحفيةِ حاراتٍ من خلال شخصيات حفر فيها الزمن أخاديدَ عميقة، وبوصف المرئيات والمحسوسات بفرشاة واقعية فارزة بدون ابتآس ولا تأوّهات، وهو يُحسب لها، ومغموسة في بحيرة ذات، وهو اختيار جنح بهذه القصص إلى نوع السيرة الذاتية ساردُها مؤلفُها وضميرُ المتكلم اسمُها، ومحكياتُها حقيقية بشهادة.
بذا تصبح (المتوالية القصصية) عند مي خالد رحِماً واسعاً لتساكن وتفاعل أنواع أدبية متعددة ليس نوع (المتوالية) على ظهر الغلاف إلا تسمية ذريعة شكلية لسرد سيرة حياة بلسان ذات، وهو سرد يروم من البداية الانتماء إلى الأدب بنسق نوع محدد، ووظّفت له أدوات وجماليات، يُخيّل إليّ أن صاحبته بصدد البحث عن شكل أنسب تصبّ فيه رواسبَ الذاكرة، بعد هذا النوع الهجين HYBRIDE كما يجوز لدارس الأجناس الأدبية أن يسمّيه، والتهجين ضرْبٌ من تجريب خلّاق.