استدعى أولمبياد فرنسا آراء وردود فعل كثيرة حول العالم، مثل الحكومة الروسية ورئيس الوزاء المجري ومشيخة الأزهر الشريف في مصر والأساقفة الكاثوليك ونواب أميركيين وشركات دعاية كبرى.
الرابط بين هؤلاء جميعًا هو الاستياء من التجسيد الهزلي للوحة "العشاء الأخير"، ما اضطر آن ديكامبس، مديرة الاتصالات في اللجنة المنظمة للألعاب الأولمبية، أن تعتذر ـ باسم اللجنة ـ عن المحاكاة الساخرة. وقيل إن اللجنة حذفت فيديو الافتتاح من قناتها على اليوتيوب.
قيم أولمبية
يتطلب فهم ما جرى بموازة الحدث الرياضي العالمي الأضخم، إعادة قراءة العلامات الأساسية، فمهوم الأولمبياد نفسه ارتبط باليونان ويعود إلى ثلاثة آلاف عام تقريبًا، حيث كانت تُقام بطولات في المصارعة والملاكمة والجري كل أربع سنوات.
وبرغم الغموض المحيط بذلك الحدث والأساطير المروية عنه، طوّر معان كثيرة أساسية مثل: الصلح بين المدن اليونانية المتحاربة وإشاعة السلام في فترة الأولمبياد، فالرياضة رسول سلام، إعداد شباب قوي ضروري للخصوبة، والدفاع عن الوطن، تقديم القرابين للآلهة خصوصًا زيوس، أي لا تنفصل الرياضة عن القيم الروحية.
وإذا كانت اليونان مُنشئة وراعية الأولمبياد القديم، فإن فرنسا هي من أنشأتا ورعتها في صيغته الحديثة، على يد البارون بيير دي كوبرتان، بعدما منعه الرومان بحجة أنه مهرجانات وثنية تنافي العقيدة المسيحية. ونجح كوبرتان بعد جهود خارقة في تأسيسها عام 1896.
لذلك شحنت فرنسا حفلها الأسطوري بالعديد من الرموز كي تؤكد من خلالها أنها الأم الشرعية للأولمبياد الحديث، ووريث الحضارة اليونانية العظيمة. فظهر المغني فيليب كاترين شبه عار ومطليًا بالأزرق والذهبي، كي يجسد الإله الإغريقي ديونيسوس المرتبط بالربيع ومهرجانات الخصوبة والخمر والمجون. هنا تظهر الرغبة الفرنسية في استمرارية الإرث الإنساني العظيم، منذ اليونان القديمة، والدعوة إلى حب الحياة والتصالح مع الجسد.
في المقابل اعترض من يعتبر ذلك ردة وثنية، وعريًا مبتذلًا غير لائق. لأن العري المسموح به في المهرجانات القديمة ـ قبل ظهور الأديان السماوية الثلاثة ـ أصبح يقابل بتزمت ديني منذ الرومان المسيحيين وحتى اليوم. وبات فعلًا إشكاليًا ومقموعًا من غالبية المتدينين. فلا يوجد دين يتسامح بسهولة مع العري، وديونيسوس نفسه لو استعيد الآن سوف يرجم بحجارة المؤمنين.
ما وراء اللوحة
هذا ينقلنا للتفصيلة الأخرى من الفيديو الخاصة بتجسيد لوحة "العشاء الأخير" لدافنشي عبر محاكاة ساخرة شارك فيها متحولون جنسيًا.
اللوحة رسمها دافنشي عام 1498، ومنذ خمسة قرون لم ينقطع الجدل حولها، وقيل إنها تروج لمعقتدات باطنية مخالفة للعقيدة الكاثوليكية، ويظهر فيها يوحنا بطريقة أقرب إلى الأنثوية، وفرويد نفسه في تحليله الشهير لشخصية دافنشي يلقي بظلال من الشك حول ميوله الجنسية.
ومن وحي اللوحة وصاحبها كتب دان براون إحدى أشهر روايات الألفية الجديدة "شفرة دافينشي" التي بيع منها أكثر من ستين مليون نسخة وتحولت إلى فيلم شهير، وأيضًا تلعب على فكرة الأسرار الدينية المتضمنة في اللوحة، وما يحاول الفاتيكان أن يخفيه عن الناس.
فلماذا تضايق الغاضبون من المحاكاة الساخرة في الحفل؟ للأسباب نفسها التي ضايقت من هاجموا الرواية والفيلم وسعوا إلى منعهما وفرض الرقابة عليهما، لأنه لا تقبل بسهولة أية تأويلات تمس العقائد المتعارف عليها.
التناقض اللافت هنا أن اللوحة نفسها، والتي قد تنطوي على تأويل مضاد للكنيسة، باتت جزءًا من الإرث الكنسي وأسبغت عليها "القداسة"، فيما تواصل الكنيسة صد أي إساءة سواء تجاه اللوحة أو الحدث الديني الذي تجسده.
طبقًا للعهد الجديد كان عشاء عيد الفصح آخر ما احتفل به يسوع مع تلاميذه، وفيه قدم خلاصة تعاليمه وسر القربان، وأعلن أن أحدهم سوف يخونه، وكان يهوذا حاضرًا.
ينطوي الحدث على قداسة مؤسسة في الديانة المسيحية، وربما تساهل رهبانها مع لوحة دافينشي لأنها حافظت على جلال الحدث ومهابته، على عكس شطحات الرواية والفيلم وحفل الأولمبياد.
فخ الحرية
ما سعى إليه منظمو الحفل، هو مد صلة فرنسا مع حضارة اليونان القديمة (الوثنية)، ومع المسيحية عبر شفرة "العشاء الأخير"، وإمكانية تعايش ذلك كله وفق مبدأ الحرية العلمانية على الطريقة الفرنسية.
ومثلما قبل المسيح الضغفاء والمرضى والفقراء وخالطهم وانتقى منهم تلامذته، قد يأتي من يسأل: لماذا لا نقبل الأقليات المختلفة عنا الآن كالمتحولين جنسيًا؟ هل كان سيرفضهم يسوع ويطلب برجمهم وجلدهم؟ من المستبعد أن يفعل ذلك وهو من أوصى الجميع في عشائه الأخير: "أحبوا بعضكم بعضًا كما أنا أحببتكم".
لكنّ الرسالة وصلت مشوشة ومثيرة للاستهجان، وبدت لكثيرين كأنها تشبّه يسوع والقديسين الكبار بالمتحولين وتسخر منهم غير عابئة بإيمان المؤمنين وجرح مشاعرهم، وعدم مراعاة الحساسية الدينية.
فالغضب ليس من محاكاة لوحة دافينشي بشكل ساخر، وإنما من إعادة إنتاج حدث مقدس مشحون بالدلالات بطريقة فجة ومبتذلة تفسد خيال أو مشاعر ملايين المؤمنين.
بيان الأزهر
من هذا المنظور لن يختلف في شيء بيان الأساقفة عن بيان الأزهر الشريف والذي حذر فيه من: "خطورةِ استغلالِ المناسبات العالميَّة لتطبيع الإساءة للدِّين، وترويج الأمراض المجتمعيَّة الهدَّامة"...
حتى غير المتدينين والأقرب إلى العلمانية الفرنسية أبدوا تحفظهم، بمنطق رفض تعميم نموذج التحول الجنسي وتشجيع العلاقات المثلية بين الأطفال، وقبل أيام استنكر المرشح الرئاسي دونالد ترامب تلك التوجهات في المدارس الأميركية.
نحن إزاء تناقضات قائمة جسدتها فقرة صادمة في الحفلة، ففرنسا ترغب في الانتساب لحضارة وثنية، وديانة غير وثنية. تتفهم الحساسية الدينية المسيحية، لكنها لم تبد التفهم ذاته حين طاولت الإساءة دينًا آخر هو "الإسلام". وهذا ما كتبه كثيرون على مواقع التواصل.
تريد أن ترفع صوت الأقلية الجنسية، دون أن تضع في الحسبان غضب الأكثرية المخالفة. توافق على مشاركة تامة في الألعاب لإسرائيل برغم حرب الإبادة ضد شعب أعزل في فلسطين، ثم تمنع روسيا لمجرد أنها تخوض حربا مع دولة أخرى يساندها الغرب؟
وهكذا أراد المنظمون تقديم فعل ثقافي وإبداعي يعزز حرية مطلقة لا وجود لها، في واقع محكوم بعظات المؤمنين ومصالح الشركات المعولمة وبينزس الحروب وصراعات الدول، حيث يتسابق الجميع لقمع الحرية والتخويف منها والاستثمار التجاري فيها.