يرى تشيزري لومبروز، أشهر عالم جريمة، أن جرائم العنف تزيد في الصيف وتقل في الشتاء. وطوّر آخرون فكرته عن ارتباط الجريمة بالطقس. قيل إنّ حرارة الصيف قد تسبّب الجرائم الانفعالية، وحين تنخفض الحرارة شتاء تزداد السرقات.
ارتفاع الحرارة عن 30 درجة يُشعر الإنسان بالضيق والعدوانية. وثمة دراسات تتناول العلاقة بين شدة الحر وتراجع مستوى السيروتونين وهو هرمون السعادة وضبط المزاج مقابل ارتفاع التستسترون هرمون الذكورة. وهذا يربط العنف والقتل بالرجال أكثر. وقد حدد بعضهم شهر تموز/ يوليو باعتباره ذروة جرائم العنف والقتل والاغتصاب والتحرش، ليس بسبب الحر فقط بل لأنه يتزامن مع إجازات المدارس للمراهقين والشباب.
فهل تأثر الكُتاب بأفكار لومبروز وعلماء النفس حين ربطوا فصل الصيف بروايات العنف والجريمة والقتل والحروب؟
جريمة في بترا
أكثر كاتبة استعلمت كلمة "جريمة" في عناوين رواياتها هي أغاثا كريستي مثل "جريمة في قطار الشرق" و"جريمة قتل"، وفي معظم رواياتها تعتمد كريستي على وقوع جريمة غامضة، مع تغذية الشبهات حول عدد كبير من الشخصيات، حتى لو لم تذكر كريستي الصيف صراحة لا يخفى أن اختيارها لفضاء الأحداث في عالمنا العربي مثل مصر والعراق وبلاد الشام، له علاقة بالطقس الحار؛ مثلاً روايتها "جريمة في الصحراء" تركزت الأحداث بين فلسطين والأردن، ومن أول سطر يسمع المحقق بوارو هذه الجملة "ولهذا كله يجب أن تقتل". كان هذا حواراً بين ريموند وشقيقته كارول، بشأن زوجة أبيهما "السيدة بونتون".
مع ضخ المزيد من الشخصيات، يكون ثمة اقتراح بزيارة مدينة "بترا" الأثرية، لكن السيد كوب يرى أنها رحلة شاقة قد لا تتحملها "السيدة بونتون" التي كانت معروفة في شبابها بجمالها وذكائها وقوة شخصيتها.
مع ذلك تصل السيدة إلى بترا وتُدعى إلى العشاء، ثم يكتشفون أنها ماتت فجأة. وهنا يخمن العميد كاربري ـ حكمدار مدينة عمان ـ أن تكون وفاتها بسبب مشقة الرحلة وحرارة الجو. ولا يخفي ارتيابه أمام بوارو أن يكون لأحد أفراد أسرتها يد في قتلها انتقاماً من معاملتها القاسية لهم. فنحن أمام شبهة قتل حدثت في الصيف، وفي مكان غامض بالنسبة لأبطال القصة.
قتل بلا دافع
تحضر الجريمة في الشرق أيضاً، وتحديداً في الجزائر، من خلال "الغريب" لألبير كامو، وفي واحد من أجمل المشاهد تمتزج حرارة الصيف بجريمة قتل، حين يحكي ميرسو بطل الرواية عن لحظة إطلاقه النار على الضحية قائلاً: "كانت حرقة الشمس تلهب وجنتي، وأحسستُ بقطرات عرق تتراكم في حاجبي، لقد كانت شمس النهار نفسها التي كنتُ قد دفنتُ فيها أمي، وكذلك اليوم كان جبيني بنوع خاص يؤلمني، وكانت جميع شرايينه تخفق معاً تحت الجلد".
بسبب حرارة الجو وتأثيرها على البطل/الراوي، ضغط على زناد المسدس. وربما لا رواية تضاهي "الغريب" في ربط القتل العبثي بحرارة الصيف اللاهب التي دفعت البطل للخروج عن شعوره ووعيه.
امتحان أخلاق للمثقفين
ليست "الغريب" الرواية الوحيدة التي تقع فيها جريمة قتل عشوائية بسبب الحر، لدينا مثل شهير في الأدب العربي من خلال رواية "ثرثرة فوق النيل" لنجيب محفوظ والتي تبدأ بجملة "إبريل شهر الغبار والأكاذيب"، فالأحداث تنطلق مع حرارة الصيف، وبرغم ميل الأصدقاء للسهر واللهو في العوامة، إلا أنهم حين يقررون الخروج بالسيارة في رحلة بلا هدف، يصدمون رجلاً ويقتلونه:
"ـ شخص ما تحطم
ـ قتل عشرات مرات
ـ نهاية متوقعة
ـ وليلة سوداء"
وسط الفزع والارتباك يستمر الحوار بين الأصدقاء حول التصرف الأخلاقي الصحيح:
"ـ لعله في حاجة إلى مساعدة؟
ـ لقد انتهى.
فقالت بصوت أعلى درجة:
ـ لا يمكن القطع برأي.
ـ لسنا أطباء على أية حال".
وهكذا ألقى القتل العشوائي بظلاله الثقيلة بين رفاق السهر وكدر عليهم أوقات المرح واللهو، وضعهم إزاء مأزق أخلاقي وهم صفوة المجتمع من الكتاب والفنانين والمثقفين.
في الغالب إذا تحدث محفوظ في مستهل أعماله عن الصيف والحرارة والغبار فهو يمهد لجريمة مرتبطة بمعضلة أخلاقية أو وجودية، أو يأخذنا في رحلة انتقام عبثية كما حدث مع بطله "سعيد مهران" في "اللص والكلاب":
"مرة أخرى يتنفس نسمة الحرية، ولكن الجو غبار خانق وحر لا يطاق"، هكذا يصف لحظة خروج سعيد مهران من السجن في عز الصيف، ليبدأ رحلة انتقام من صديقه "عليش سدرة" الذي وشى به وتزوج امرأته، وكذلك صديقه ومعلمه "رؤوف علوان" الذي تخلى عن مبادئه، واستمر في محاولاته العبثية إلى أن حاصرته الشرطة في مغارة جبلية.
من فيلم ثرثرة فوق النيل
مولد السفاح
من أجواء القاهرة وابريل شهر الغبار والأكاذيب، وصيف الانتقام في "اللص والكلاب"، نعبر البحر المتوسط إلى باريس حيث ولد في أزقتها أحد أشهر السفاحين في الأدب المعاصر، إنه جان باتيست غرينوي، سفاح "العطر" رائعة باتريك زوسكيند، والذي اختار له أن يولد في دكان سمك وسط رائحة الزفارة والعفن، "في يوم من أشد أيام السنة قيظًا، كان الحر كغطاء من الرصاص فوق المقبرة، يهصر سديم التعفن".
كأن مصير البطل المشؤوم يتحدد نتيجة الحساسية الفائقة للروائح وولادته في الحر الشديد المحفز للقتل.
جثة معلقة تتعفن
ونصل إلى أميركا اللاتينية وأدبها الصاخب بحرارة الصيف والثورات والعنف. في رواية من "قتل بالومينو موليرو" لماريو بارغاس يوسا، يعثر صبي يرعى الأغنام في مكان ناء خارج البلدة على جثة جندي شاب معلقة ومشوهة، فيهرع لإبلاغ الشرطة:
"كان الراعي قد وصف لهما ما سيريانه تقريبًا وهم في الطريق، ولكن التخيل شيء والرؤية والشم شيء آخر. إذ كانت تنبعث من الجثة كذلك رائحة جد كريهة. وليس ذلك بالكثير تحت هذه الشمس التي تبدو وكأنها تثقب الأحجار والجماجم".
هذه مجرد عينة لروايات شهيرة تمثل مدارس إبداعية متباينة ولا يربط بينها إلا توظيف أشعة الشمس اللاهبة وما يترتب عليها من جرائم عنف تثبت صحة نظرية لومبروز حول التوقيت المثالي للقتل.. سواء لمن يخطط مع سبق الإصرار والترصد.. أو من يتورط في قتل عشوائي مدفوعًا بحرارة الصيف المدمرة.