تعرف الألفية الثالثة وتيرةَ إنتاج كبيرة ومتسارعة لفن الرواية، بلغت درجة أنها غطت على بقية الأجناس الأدبية، فأضحت الشغلَ الشاغل للأدباء والناشرين، ومحطّ اهتمام القراء.
يعزو المتسرّعون والباحثون عن أول سبب لهذا التغيّرَ إلى حافز الجوائز التي أصبحت ظاهرة لافتة في الحياة الثقافية الإبداعية العربية، أرست بنيتها المادية ومؤسستها النقدية في عديد بلدان عربية، منها دول الخليج العربي، خاصة مفردة أو بالتشارك مع جهات أجنبية. ما من شك أنه حافزٌ مغرٍ مالياً لفئة الكتاب يشتكي أغلبُهم من العوز ولا أحد يعيش من كتابته.
ويبقى سبباً خارجياً لا جوهرياً يتدخل في تكوين العملية الأدبية والانصراف شبه الكلّي إلى النص السردي التخييلي. لذلك يجب البحث عنه داخل الشروط الموضوعية الفاعلة في تأسيس الأجناس الأدبية من حيث ملاءمتها لزمن ومجتمع وقدرتها على رسم واستيعاب أشكال الحياة وأنماط السلوك وطرائق العيش والتفكير، وخصوصاً معضلات الفرد في الزمن الحديث.
هذا الانتقال إلى مجتمعات ذات بنيات وأوضاع سوسيو ـ اقتصادية حديثة بشكلٍ منظّم أو بطفْرات مع ما استتبعها من تبلور طبقات وفئات مغايرة، بأزمات وحيوات مستجدة، يجعل الرواية اليوم أقدر من أي فن أداةً للتعبير إذ تحقق تراكمٌ مدينيٌّ سواء اتّسق منسجماً أو على العكس هجيناً، ومرويات قابلة للحكي يبحث فيها الأفراد عن خلاص ويعيشون صراعات إشكالية مزمنة.
أريد أن أدقق في رصد الوفرة النّصية وتحديد مياسمها ميدانياً لا نظرياً وحسب، أي بناءً على تجربة قراءة فاحصة وشاملة خضتها أخيراً برئاستي للجنة تحكيم لجائزة غسان كنفاني للرواية العربية قرأت فيها جبْراً ومجهرياً لا عبوراً وتصفُحاً مئة وسبعين رواية مترشحة للجائزة من أقطار الخليج إلى المحيط، بين أقلام هي لأعلام، وثانيةٌ راسخة، وثالثةٌ مواهب صاعدة، ووجدتها ترسم بانوراما الرواية العربية بموروثها وأنساقها الراهنة وتجارب تحولاتها، سأكتفي بإبداء ملاحظات مركزة عنها مستخلصة من القراءة لا مملاة عليها مجملة في الآتي:
1ـ يهتم الكتاب بالشأن الاجتماعي من خلال بؤر صغيرة تبرز صورةً كليةً عن طبقة، فئة، جماعة، من خلال سلوك وثقافة وتقاليد. مثلاً، استحضار البيئات الريفية من زاوية نمط العيش والقوى المتحكمة والموجهة، تتجلى معها البنيات الأنتربولوجية والسلطة والعلاقات.
2ـ نجد سروداً كثيرة تحتفي بهذه البيئات الخلفية التي سبق للسرد الحضري إزاحتها للهامش، فتوارث حكاياتها وأماكنها وشخصياتها، لتحتكر المدينة تمثيل الزمن والجماعة الغالبة.
نرى حدوث انقلاب على هذا الاحتكار، ونقض ما ثبت في الواقع والأذهان مسلمات أن المدينة هي الفضاءُ الروائيُّ الأول ومجالُ الصراع، والسردُ المدينيُّ اللسانَ الناطقَ والواصفَ وما عداه تابع. هي مراجعةٌ تعود بالحكاية لتحُلَّ محلّ سرد المدينة، وتعويض الفضاء الحضري بغيره.
3ـ تتصدر تيمة الغلبة والهيمنة أغلب الروايات، مجسدةً في مواضيع الظلم الاجتماعي، وغياب العدالة، والحرمان والمكبوتات والمحرّمات، لتُبنى الحبكاتُ الروائيةُ حول خطط القَصاص وطلب الإنصاف مصطدمة بعوائق تؤدي إلى إحباطات وفجائع، وحصيلتها يجمعها خاصية سرد الفجيعة والخسارة.
4ـ رصدت قراءتي جوارَ الماضي للحاضر، وتقابلَ وتضادّ قيمِ المحافظة والتقدم، مع أفكار وخطابات عقيدية وأيديولوجية سياسية، بين التبنّي وسلطة الهيمنة بأفعال تصنع الدرامية حيّةً في الواقع، وإما تصطرع مكبوتاتها في شغاف النفس البشرية، وتقنع أكثر بقدر ما تفعل بالتشخيص والتمثيل وليس خُطبَ وتقاريرَ الشرح والوعظ يسيل منها كلام المؤلف عارياً.
5ـ روايتنا العربية الراهنة متخمةٌ بحضور التاريخ تيمةً ومادةً أساسيتين. إما خاصة مقررة بأحداث وتواريخ وأعلام؛ وإما بواسطة الانتقاء والاقتباس؛ وطوراً بالمرجعية والسياق. يحمل هذا التاريخ صورَ قناعٍ وخطاب مجازي وتوريةٍ عن واقع قد يُمنع أحياناً من تصويره وتعرية تشوهاته.
6ـ هذا ما يقودني إلى الملاحظة الأشدّ بروزاً وإثارةً في الرواية العربية الراهنة في إنتاجية ألفيتها الثالثة، وبكتابات من يفترض أنهم ورثةٌ للرواد والآباء المؤسسين للرواية الواقعية، ولا يمكن أن تكون إلا كذلك.
أعني هنا كيف أنهم يخلعون هؤلاء الآباء بانسحابهم من الواقع بتجلياته ووقائعه المادية الصلبة، وبتقلص المنظور الواقعي بنوع من العمى المقصود أو بقلب سالب الصورة موجبها فلا تُرى إلا معتمةً. معلوم أن الواقعية الفنية، دائماً، هي القاعدة الأساس للرواية وزمام جنسها، فهي ليست ملحمة ولا أسطورية ولا شعرية، وها هي ذي نقرأها تعاكس وتفارق جذورها وتطرح الداخلَ بديلاً للخارج، والذاتَ معتركاً للحبكة والفعلَ الدراميَّ موضوعَ تحلّل والتباس.
7ـ هذا لا يُلغي ديمومة هيمنة القضايا الاجتماعية والوطنية وبعض الهواجس الوجودية. لا يُلغي أن الرواية العربية تظل حليفةَ الانتصار للتجديد والحرية والكرامة واضعةً حق الفرد بؤرةً سرديةً وتيمةً خطابية بإلحاح. هذا هدفه تكوين هوية ذاتية خصوصية كنقيض للمسلمات وسلطة المجموع.
8ـ الخاصية الأبرز فنّياً هي عموماً انسجام طرائق الكتابة والأساليب في الروايات مع المضامين والمعاني المعالجة. قلّ السردُ الكلاسيكي المتبعِ لزمنية خطية، باقٍ في سرود الحكاية والبيئة الريفية، الأحداث فيها متوقعةٌ ومنطقيةٌ سببية، والشخصيات تتحرك في مسارات أفقية. بالمقابل، السائد أكثر، كسرُ الخطّية والانزياحُ عن منطق السببية، وخلخلة نظام الوحدات الثلاث.
من أهم مميزات هذا الانزياح تغيير موقع البطل، وتبديل معناه بتعددية مواقع البطولة وخطاباتها، ومنه تشغيل آلية تعدد الأصوات (البوليفونية) وتشظية المعنى. هي تحولاتٌ تقودها نزعةٌ تجريبية في الرؤية وطرقِ السرد وتصوّرِ معنى التخييل وكيفية تحقّقه، بكسر حادّ لنسق الواقعية الكلاسيكي، ومنح الذات موقعاً مركزياً.
ويبنِي فيه الكاتب عوالم مفردة بلغة مبتكرة تعوض وصاية التقريرية والسارد العليم وصوت المؤلف الدخيل، بالمونولوغ الداخلي، بالبوح، بالتطريز الشعري على نسيج المجاز. تحولات نوعية ودلالية تعيد الاعتبار للواقعية من حيث أرادت أن تهجرها، ذلك أن قدمت لنا إبدال (براديغم) الواقعية الحلمية كما صاغت رواية أميركا الجنوبية الواقعية السحرية.
9ـ تحاشيت عمداً الاستشهاد في مقالتي بنماذج تمثل للخصائص وكيفيات التحولات لوفرتها، الأهم هنا هو نمذجة الشكل في مفاصله الكبرى كما تحددت ويتواصل بناؤها في معمار رواية الألفية الثالثة، إضافة إلى حصر القواعد التامة لهذا السرد وعناصر القطيعة فيه.
وهذا من أجل الوصول ما هو الأجدر بالرصد، أي بناء تجربة التأصيل والامتداد في الرواية العربية. وهذا ما يشتغل به اليوم كتاب صاعدون في أقطار عربية مختلفة، وأحدها تجسّد في نص أجبرني على الوقوف عنده بتأنٍّ أعتبره نموذجاً وتلخيصاً لوصفة (التأصيل والامتداد) رواية الكويتي عبد الله الحسيني: "باقي الوشم" الذي فاز أخيراً بجائزة غسان كنفاني للرواية العربية، معه رجحت كفة الواقعية ذات الرؤية الحلمية الخلاقة على قاعدة الأرض الاجتماعية المركّبة ولمنح البطولة للجماعة المغمورة.