النهار

روائيةٌ فرنسية تصنع من هموم التونسيين مادةً أدبية
أحمد المديني
المصدر: بيروت- النهار العربي
سافرت نيمييه إلى تونس، حيث رتّبت لها صديقتها ظروف إقامتها، وهنا أطلقت مشروعها، بدأت بالإعلان في الصحافة ووسائل التواصل الاجتماعي عن استعدادها لتلقِّي فيض خاطر وحكايات الناس
روائيةٌ فرنسية تصنع من هموم التونسيين مادةً أدبية
ماري نيمييه
A+   A-
     
من ذكريات طفولتي البعيدة، مروري مع والدي بعد أن نقضي حاجتنا من السوق البلدي، أمام مجموعة من الأكشاك يجلس في داخلها رجال من أعمار مختلفة، منهم من وضع فوق الحاجز الخشبي آلة كاتبة وأوراقًا، بعضهم جالسٌ كأنه ينتظر، وآخر أو آخرون إما يضربون على الآلة أو بجوارهم رجل أو امرأة ينحنون عليهم ويستمعون ثم يعودون إلى الأوراق يسطرون.
 
في طفولتي دائماً، كنت أمرّ قرب دار المحكمة الابتدائية في حيّ الأحباس في الدار البيضاء، وهي مبنى مهيب، تقابله ساحة وممرات فيها مكاتب صغيرة خاصة بالعدول، وكذلك لأشخاص على هيئة من أرى خارج السوق البلدي، مع فارق أن هؤلاء وضعوا أمامهم بطاقة "كاتب عمومي". 
 
في مرحلة التعليم الثانوي بدأت قراءة الكتب، وهذه ألفها كُتّاب، من عجب لم أهتم بهم بقدر ما تركيزي على القراءة، وتدريجيًا صرت أهتم بهم وأميّز بينهم، وأتساءل بين الإعجاب والحيرة عن هذا النوع من البشر الذي يملأ الأوراق في عزلته وتصل إلينا مطبوعةً في كتاب نقرؤه. نقرأ أيضاً في عزلتنا ونكتشف عوالم الإنسان والدنيا من خلال شخص يرى بالنيابة عنا، لم يخطر ببالي أني سأصبح من زمرتهم.
 
في المقابل يوجد شخص يعرِّف نفسه (أنا كاتب عمومي) اقتربت منه فعلِمت وفهمت أن مقتضى عمله: أولاً، الكتابة للآخرين. ثانيًا، الكتابة لمن لا يحسنون القراءة والكتابة. ثالثًا، كتابة تظلّمات الناس لدى السلطة بمراسلات إدارية، وكذلك شرح أمور شخصية أو حميمية. وبما أنها مهنة فبطبيعة الحال يتقاضى أجرًا عن مهمته. 
 
لا أجد فرقًا بين الوضعين (العمومي والخصوصي) فما يُكتب موجّهٌ للعموم، لقارئ مفترض، وما يُطبع وينُشر ويُوزع لا يبقى خصوصيًّا اللهم بمميزات كلا النوعين وغرضهما. قريب من هذه الفكرة اهتدت إليه الروائية الفرنسية Marie Nimier وجسّدتها في كتاب حديث الصدور: "Confidences Tunisiennes" (غاليمار 2024) أو بالعربية "أسرار تونسية". 
 
هو ثمرة عمل فريد ومركّب، جمع بين إرادة الكاتبة بأن تضع موهبتها في مقام (كاتب عمومي)، واستعداد الجمهور الغفل لأن يضع بين يديها همومه وشجونه بلسانه مباشرة، وهو يحكي حميمياته أو أسراره (Confidences)، وتتولّى هي نسجَها ونقلها إلى العموم وقد فعلت، ولهذا قصة تُروى. 
 
تتحدث ماري نيمييه عن حافز إعداد كتابها، بأنها سبق أن خاضت هذه التجربة في الصين مع مجموعة، وأرادت أن تجدّد الصلة بهم، وفيما تهيأت للسفر حلّ وباء الكوفيد فعطّل برنامجها، وفي اتصال لها مع صديقة تونسية هوّنت عليها هذه أسفها قائلة لها، لماذا تذهبين إلى آخر العالم، إلى الصين، للغرض، تعالي إلى تونس ستجدين فيها مبتغاك، فنحن شعب حكّاء. 
 
 
 
حكايات الناس
بعد أن خفّ الوباء، سافرت نيمييه إلى تونس، حيث رتّبت لها صديقتها ظروف إقامتها، وهنا أطلقت مشروعها، بدأت بالإعلان في الصحافة ووسائل التواصل الاجتماعي عن استعدادها لتلقِّي فيض خاطر وحكايات الناس، ثم انتبذت لها ركناً وطاولة في مقهى قبالة السوق المركزي للعاصمة، أصبح مقرها، تستقبل فيه الراغبين في الإدلاء بشهادات عن حياتهم وهموم تشغلهم.
 
لا تذكر نيمييه كم أمضت في وضع (الكاتب العمومي) بلغ حصاده 57 شهادة هو حصيلة التأليف أو الجمع، ويطلعنا على نوعين من الكتابة، حيث يزدوج الأداء بين اثنين: واحدٌ يروي ما يختزن في رأسه ويحزّ في نفسه، وهو يقوم باختيار مسبق؛ والثاني يسجّل ويدوِّن المادة الأولية التي عادت إليها ومنها بعد الفحص والغربلة، ليعطينا بدوره الحكاية والشهادة المسموعة والمدّونة باتّساق وفي صفاء. 
 
تعلن الكاتبة وتخبر جمهورها، قاصديها الذين لا تعرفهم، أنها هنا لتستمع لهم، ولا أسئلة تطرح عليهم خشية أن تكون عندهم أجوبة جاهزة. هي تعمل بطريقة المحلل النفسي الذي يُجلس زائره فوق الأريكة ويدعه يتكلم تلقائيًّا على السّجيّة. بعد أن نقرأ المجموع سنجد أننا تعرفنا على مجموعة كبيرة من الحالات الاجتماعية والسلوكية والسيكولوجية وحصيلة لتقاليد البلد وثقافته، وما يعترض الفرد من مصاعب وكوابح بقدر ما يتطلع إليه شعبٌ من مطامح وحاجات، هذا مجتمِعًا يرسم صورة بانورامية للمجتمع من جميع النواحي، تصلح مادة دراسة لعالم الاجتماع والاقتصادي والمحلل النفسي صاغها كاتب عمومي.
تعالوا نطلع الآن على عينات دالة من هذه المادة الوفيرة والمتنوعة لنعرف قيمة هذا العمل. كلّ عينة تنتمي إلى تيمة ومعضلة ما، ويقدّمها راويها بصيغة محكية، وتحس به تسكن وتوتِّر حياته ويرويها ليتخلص منها، أولُها العلاقة بالأب تيمةً مركزية في نص" le Petit"(الصغير) (17) نعت يقول المتحدث تطلقه العائلة على أبيه لا جسدًا ولكن لسلوكه الصبياني ونزواته، وقلة اهتمامه بأبنائه عن غير قصد، وذات مرّة وقد كبُر، طلب الحديث إلى والده أثناء حديثه لأمه في الهاتف، وهذا في وقت قيلولته، ورغم هذا فزع بالنسبة إليه، ويقول سألته هكذا عن أحواله وصحته. لم يكن الأبوان على وفاق، وإذ سأل أمه لماذا لا يتطلّقان، أجابته أنه لا يليق بهما الطلاق على كبر، لقد اخترنا، وختمت "إنها مسألة ثقافية". تموت الأم، ويروي الأب لابنه أنه كان على حافة الطلاق لما عثرت في جيبه على إبرة نسوية، وليلتها صالحها فحملت، وأنت يا بني ابنُ الصدفة. يقول الإبن إن أباه لم يعلم كم آلمه هذا الاعتراف، لكن أباه هكذا. 
 
تيمة العلاقات العاطفية والجنسية في عديد نماذج: معاناة الرجال والنساء في هذه العلاقات، خصوصًا رتق البكارة "المقدّسة" عُرفًا (85)؛ الزواج العرفي بين الطلاب في الجامعة وفي الوقت نفسه فضح ازدواجية المتدينين (101)؛ ما تتعرّض له الفتيات من تحرّش واغتصاب في مجتمع ذكوري يضطهد المرأة في قصة "المراقب" (139). 
 
 
ثمة من تقدّمَ للروائية الفرنسية في ركنها في المقهى ليعرض عليها عيوبًا اجتماعية من خلال موقف شخصي، مثاله قصة Toucher sa part (أن تأخذ حصتك) (75) لانتقاد فساد الإدارة، يروي الشخص رفضه منح بقشيش في المعاملات الإدارية، وما يعانيه مواطن مثله من عنت من دون عطاء أو واسطة، هذا المرض الذي يصطدم بيقظة الضمير، وببقائه متشبثًا بموقفه إلى ذات حادثة تنقض مبدأه، وتمثل سقطته، انصياعه لرشوة لرجل أمن في حاجز طرقي وهو عائد من سهرة مع صديقات، وخوفًا عليهن من الاتهام بالفساد وحبسِهن، ويحكي بطرافة أنه اضطر للمساومة على المبلغ والمرتشي يأخذ منه نصف المبلغ.
 
كثيرةٌ هي الحالات المعروضة لأورام المجتمع من حرمان وفقر وخيبة أمل بلا حساب لدى الأجيال الجديدة، يعرضها المشتكون على الكاتبة العمومية الفرنسية، كأنما هي بجنسيتها الأجنبية يرفعون الكلفة معها ويستطيعون البوح، وهي ستبلّغ إلى الخارج قضيتهم. يجمل نص"le retournement" "التحول" (119) موضوع وإحساس الغضب والخيبة هذا، بلسان عائد من المهجر يصف مشهد ما وجد عليه بلده في نهايات عهد الرئيس بن علي ولاحقًا. 
يتبنّى الشخص خُلق الجدّية والإنتاج في مجتمع منخور، متعدّد الوجوه، كان الأجانب يأتون إليه للاستثمار وإذا أبناؤه يهجرونه ليبيعوا قوة عملهم في الخارج. يتحدث عن ظاهرة الهجرة، وعن ضياع البوصلة، وتفشّي الكراهية بين السياسيين، واتساع الفوارق، ورئيس إذا تكلم تحسبه من زمن آخر. أغلب النصوص الشهادات على هذا المنوال مشحونة بالغضب ورغبة التغيير.
 
حين تُنهي قراءة "أسرار تونسية" تشعر أنك أنهيت رواية واقعية جدًا، بشخصيات تقدّم نفسها وأزماتها ببوحها الشخصي على نسق الحكاية، بسرد متقن هو الإبرة التي حاكت بها الكاتبة ما سمعته من بوح واعترافات، وعندئذ فإننا لا بدّ أن نسلِّم لها بإبداعية النوع الذي تصوغ والموقع الذي اختارت أن توجد فيه، ارتقت به من (الكاتب العمومي) الوسيط الذي ينقل كلام الناس عاريًا، من كان المصريون يسمّونه (العرضحالجي) إلى من ينفّذ فعلًا هذه المهمّة، ولكن بأدوات أسلوبية وبصنعة حكائية مغرية، وباستبطان لشخصية الراوي ليرتقي سلّم الأدب، وهذا ما نعنيه بالتركيب. إن أضفنا اختيار الكاتبة لقضايا حساسة وشائكة، فإنها تعتنق دور الالتزام والرسالة.
 

اقرأ في النهار Premium