إذا كانت "ألف ليلة وليلة" أثّرت في الآداب الإنسانية، وهي خليط من حكايات وخرافات هندية وفارسية وعراقية ومصرية، ربما يعود جمعها إلى القرن الثاني الهجري/الثامن الميلادي (عصر هارون الرشيد)، فإليها وإلى "الديكاميرون" الإيطالية تعود جذور الرواية الحديثة. كلا السفرين الخالدين اعتمد على حكاية إطارية أو بناء محفّز لإطلاق الحكايات؛ فشهرزاد قرّرت الانتصار على الموت وتأجيله بإخضاع شهريار لسلطة حكايات تتناسل من بعضها بعضًا، تتلاعب فيها بالمنطق والخيال والأماكن والسلطة، وتستعمل لغة الحياة اليومية التي تدمج الشعر الفصيح الحكيم مع العامية الدارجة، مثلما تمزج عبارات التقوى والورع مع مشاهد إيروسية جريئة. وهذا كله أعاد بوكاشيو الاشتغال عليه بمزاج إيطالي.
كتاب بوكاشيو
يُعيد جيوفاني بوكاشيو (1313 ـ 1375) لعبة ألف ليلة وليلة ذاتها، بكل جمالياتها، في "الديكاميرون" وتعني "الأيام العشرة"، ولكن بدلًا من شهرزاد واحدة تتولّى الحكي، جعل الراويات سبع نساء من فلورنسا، وهن نبيلات جميلات تربط بينهن القرابة والصداقة: بامبينيا، فياميتا، فيلومينا، إيميليا، لوريتا، نيفلي، وإليسا.
تلتقي النساء في كنيسة سانتا ماريا وقت انتشار الطاعون في فلورنسا عام 1348 قادمًا من "الشرق"، ومع تساقط آلاف الضحايا، تقترح بامبينيا عليهن الذهاب إلى بيت ريفي بعيدًا من الوباء، وقضاء أوقات سعيدة مرحة بدلًا من انتظار الموت الأسود.
توافق الشابات، لكنّ فيلومينا ترى أنّ الرحلة تحتاج إلى رجال، لأن النساء بطبعهن مشوشات ومتقلّبات، فيعرضن على ثلاثة شباب مرافقتهن وهم: بانفيلو، فيلوستراتو، وديونيو. وهكذا اكتمل العشرة الذين يتبادلون الحكايات خلال عشرة أيام، ما عدا أيام العطلة المقدسة، وانضمّت إليهم مجموعة من الخدم مثل: بارميرو، سيريسكو، وتيندارو. كل يوم يصبح أحدهم ملكًا على المجموعة، يدير شؤونها ويتولّى الحكي، ثم ينقل السلطة إلى شخص آخر، وكانت بامبينيا هي الملكة الأولى.
رؤية نتفليكس
لم تلتزم معالجة نتفليكس بالحكاية الإطارية ولا بكل حكايات الكتاب بطبيعة الحال، فمثلًا لم تكن بامبينيا هي صاحبة اقتراح الخروج إلى قصر ريفي، وإنما تلقّى هؤلاء المعارف والأقارب دعوة من صاحب القصر "ليوناردو"، لكن لا أثر لصاحب الدعوة غير صورة كبيرة معلّقة في ردهة القصر، ثم يتبين شيئًا فشيئًا أنه قضى في الوباء ودفنه خادمه "سيريسكو" (توني هيل) في حديقة القصر.
كذلك لم تعد الدراما نابعة من سلسلة حكايات على لسان عشرة رواة، وإنما من تشابك العلاقات بين ضيوف القصر في مجموعة ثنائيات دالّة، مثل السيدة "بامبينيا" (زاشا ماميت) وخادمتها المنسحقة أمامها "ميسيا" (سيشرا مونيكا جاكسون) والتي تحاول استرضاءها بأي ثمن، وتشاركها التلاعب بالآخرين ونشر كذبة أنها التقت "ليوناردو" وتزوجته وحملت منه. و"ميسيا" نفسها كانت على علاقة مثلية مع صديقة لها، ثم كرّرت العلاقة مع "فيلومينا الحقيقية (جيسكا بلامر).
بدورها "فيلومينا" مرتبطة بعلاقة مركّبة مع خادمتها "ليشيسكا" (تانيا رانولدز) الذكية المندفعة، وتمرّ علاقتهما بأطوار متباينة من الخداع وتبادل السلطة وكشف حقائق مذهلة.
لدينا أيضًا الزوج "بانيفلو" (كاران غيل) مثلي الجنس، وزوجته "نيفلي" (لو غالا) التي تبالغ في ورعها وتدينها لكبح شهوانيتها.
ثنائي آخر يتمثل في النبيل "تيندارو" (دوغي ماكميكان) الثري المصاب بضعف الثقة وتوهم المرض، ويخضع معظم الوقت لسلطة دجال يدّعي أنه طبيب هو "ديونيو" (عمار تشادا باتيل) ذو الجاذبية الطاغية، حيث تقيم معه ليشيسكا علاقة، وتتشهاه نيفلي. والملاحظ أن المسلسل عكس الأدوار، لأن "تيندارو" في النص كان خادمًا و"ديونيو" كان نبيلًا.
تكتمل الشخصيات العشر بمدير القصر "سيريسكو" الذي يحاول إدارته وسط أطماع ومكائد الضيوف، والخادمة التي تسكن في كوخ مجاور "ستراتيليا" (ليلى فارزاد) والتي تخفي سرًا لا ينكشف إلّا في الحلقة قبل الأخيرة.
خمس ثنائيات أساسية تحافظ على الجو العام للحكايات، لكن التفاصيل مختلفة كليًا، اختفت شخصيات واختلقت غيرها، وتغيّرت وظائف، وزادت جرعة الجنس مع التركيز على العلاقات المثلية. كأنه أصبح شرطًا أساسيًا لدى نتفليكس أن تُعاد كلاسيكيات الأدب العالمي لخدمة قوس قزح.
8 حلقات
يقع المسلسل الذي عالجته كاثلين جوردان، في 8 حلقات تحمل عناوين: الريف الجميل غير الموبوء، في مزاج للعطلة، إكليل الفوز، تعكر المزاج، تبادل، بالقرب منك، أمر مريع لن تتجاوزه إطلاقًا، يمكننا المضي قدمًا الآن، وتزيد كل حلقة عن 50 دقيقة.
بصفة عامة ثمة تميّز في الأداء التمثيلي والممسرح في حيز أساسي ثابت هو القصر وملحقاته، إضافة إلى جودة الديكور والأزياء والجو العام المعبّر عن العصور الوسطى. كما يُحسب للعمل اهتمامه بتفكيك آليات السلطة وأوهام القوة، وامتلاكها وفقدها، وكذلك استبطان وعرض دوافع الشخصيات، وأنه ما من إنسان إلّا يخفي حقيقة أخرى عن نفسه، وأسرارًا تعذبه، فالزوجة الورعة تقاوم شهوانيتها، والنبيل "تيندارو" مدّعي الفروسية هو في حقيقته طفل خائف وخاضع جنسيًا لخادمة متسلّطة.
ولا يُخفى أن بوكاشيو المتأثر بالكوميديا الإلهية لدانتي- بفخامتها الشعرية ونفحتها السماوية- أراد أن يكتب عملًا مضاداً لها وصف بأنه "الكوميديا الإنسانية" أي التي تخوض في اليومي والبشري والمبتذل والشهواني والساخر، ولا تتردّد في نقد الكنيسة وطبقية الفرسان والإقطاعيين، أي أنه كتب نصًّا مؤسسًّا واستشرافيًا لقيم عصر النهضة.
وربما حظي المسلسل بنسب مشاهدة جيدة نتيجة مكانة "الديكاميرون" في الآداب العالمية، ولأنه عكس للجمهور قيم الحداثة التي يؤمن بها، في لحظة ولادتها وانسلاخها عن قيم العصور الوسطى، حيث تحولت فروسية "تيندارو" إلى فقرة دونكيشوتية هزلية، وانقلب الخادم إلى سيّد في فراش النبيلات، والكاهن المقدّس كفر بالسماء وأصبح قائد عصابة من المرتزقة.
هكذا تلاشت الفكرة النقية والراسخة عن السماء والكهنة والنبلاء، لمصلحة حق الإنسان في الخطأ والصواب، والتعبير عن عواطفه وأفكاره ونيل سعادته في الدنيا بدل انتظار ثواب الآخرة، وضرورة المساواة بين البشر بغض النظر عن الفقر والثراء وألوان الأجساد.
ثمة ملامسة لكل هذه الأفكار، لكنّ تأثيرها يضيع في زحام الشخصيات، وسرعة الانتقال بين الحكايات. ويمرّر المسلسل الطرفة والسخرية السوداء، لكنها قلما تثير الضحك لما يبدو فيها من افتعال وذهنية باردة، خصوصاً مع طول المشاهد الذي أضرّ بإيقاع العمل ككل.
تحضر الصنعة البرّاقة، لكن نقلات الأحداث وظهور الشخصيات يبدو أحيانًا غير مبرر وبلا سياق، تحركه مصادفات ومبالغات وإثارة مبتورة، ما خلق حاجزًا يجعل المتفرّج لا يصدّق ما يرى أمامه ولا يتأثر به.
ولعلّ غرض صنّاعه الإسقاط والمقارنة بين تأثير طاعون فلورنسا قبل 700 عام، وجائحة كورونا في عصرنا، وكيف يرتبط العزل بالجنون والجشع وغرابة أطوار النفس البشرية، والمبالغة في الإيمان أو الانغماس في الشهوات، وقوة الحكاية في بث الأمل والانتصار على الموت، والمجهول.
صحيحٌ أن الأوبئة قد تُظهر أسوأ ما فينا، لكنها أيضًا قد تدفعنا للبحث عن الحب الحقيقي والوعي العميق بالذات، والتماس الأمان في رفقة طيبة مخلصة.