في زمن تربعت فيه الرياضة على عرش الأولمبياد، حاز الشِعر والفن مكاناً بجانب الركض والمصارعة، ولمدة تقارب الأربعة عقود، امتزجت كلمات الشعراء وألوان الرسامين وألحان الموسيقيين مع عرق الرياضيين وصيحات الجماهير، في مشهد فريد من نوعه حيث احتفت الألعاب الأولمبية بالقوة البدنية المتضافرة مع الجمال الفني والإبداع الثقافي.
بداية الحلم
في الألعاب الأولمبية القديمة في اليونان، لم يكن الرياضيون هم نجوم العرض الوحيدين. فقد اجتذب العرض أيضاً الشعراء الذين كانوا يلقون أعمالهم أمام الجماهير المتحمسة. ودأب المتنافسون على تكليف أسماء كبيرة بكتابة قصائد تتغنى بانتصاراتهم التي كانت الجوقات تؤديها في الاحتفالات المتقنة. ارتبطت القوة البدنية والبراعة الأدبية ارتباطاً وثيقاً.
بدأت هذه الحكاية بمبادرة من بيار دي كوبرتان، البارون الفرنسي الذي اشتهر بكونه مؤسس الألعاب الأولمبية الحديثة في عام 1896، الذي آمن بأن الرياضة والفنون هما وجهان لعملة واحدة، وأن التنافس الرياضي يجب أن يتزامن مع إبداع الفنانين كي يعبر عن تكامل الروح الإنسانية. وتجسدت هذه الرؤية الطموحة في إدخال المسابقات الفنية إلى الأولمبياد، حيث مُنحت الميداليات للفنانين في مجالات الأدب، والموسيقى، والفنون المرئية، والهندسة المعمارية، شريطة أن تكون أعمالهم مستوحاة من الرياضة.
وكذلك اعتقد البارون أن البشرية "فقدت كل إحساس باللياقة البدنية"، في وصف منه لضرورة الانسجام بين الفنون والرياضة. ويمكن إرجاع هذه الفكرة إلى مصادر مثل كتاب "الجمهورية" لأفلاطون، الذي يشيد فيه سقراط بفضائل التعليم الذي يجمع بين "الرياضة للجسم والموسيقى للروح". يجب على الشعراء أن يصبحوا رياضيين، وعلى الرياضيين أن يجربوا الشعر.
سنوات التألق
شكَّلَتْ هذه الفلسفة قوة دافعة في دورة ألعاب استوكهولم عام 1912، حيث أدخل المنظمون خمس مسابقات فنية كفعاليات أولمبية رسمية. وكان أول عمل مكتوب في التاريخ الحديث يفوز بميدالية ذهبية أولمبية هو "قصيدة نثرية للرياضة"، وجاء في مطلعها: "أيتها الرياضة، يا بهجة الآلهة، يا خلاصة الحياة! في غياهب الوجود الحديث الرمادية التي لا تهدأ من الكدح القاحل، ظهرتِ فجأة كرسول مشرق من العصور الغابرة، تلك العصور التي كانت فيها الإنسانية تبتسم".
ومنذ دورة الألعاب الأولمبية في استوكهولم عام 1912 وحتى دورة لندن عام 1948، كانت الفنون جزءاً لا يتجزأ من الأولمبياد. وتبارى الشعراء بقصائدهم التي مجّدت البطولة والروح الرياضية، وشارك الرسامون بلوحاتهم التي التقطت جمال الحركة الرياضية، بينما أبدع الموسيقيون ألحاناً خلدت لحظات النصر والانتصار.
النهاية
ومع ذلك، واجهت المسابقات الفنية تحديات عدّة. إذ ثار جدال حول تمييز الهواة عن المحترفين، وحدث تفاوتٌ في الاهتمام الجماهيري، وبرزت صعوباتٌ في تقييم الأعمال الفنية تقييماً عادلاً وغيرها. وبالتالي، أدت تلك العوامل إلى انتهاء هذه الحقبة بعد ألعاب لندن 1948. ورغم تلاشي هذه المسابقات، بقي أثرها ممتداً في الروح الأولمبية. إذ استمر الاحتفال بالثقافة والفنون من خلال برامج ثقافية مرافقة للألعاب تسلط الضوء على التنوع الإنساني والإبداع الفني، ما يضفي على هذا الحدث الرياضي بعداً ثقافياً غنياً.
الأثر المستمر
ما زالت المدن المضيفة للأولمبياد تستضيف معارض فنية تعرض أعمال فنانين محليين ودوليين، مستوحاة من موضوعات الرياضة والسلام والتعاون الدولي. وتتيح هذه المعارض للجمهور فرصة للتفاعل مع الأعمال الفنية التي تعبر عن روح الأولمبياد. وكذلك تقدم الفرق الموسيقية والمسرحية عروضاً خاصة خلال فترة الألعاب الأولمبية، ما يعبر عن التنوع الثقافي والفني للبلد المضيف ويضفي على الحدث جواً احتفالياً.
وكذلك تُعرض أفلام وثائقية وأفلام قصيرة تسلط الضوء على تاريخ الألعاب الأولمبية، قصص الرياضيين الملهمة، وتأثير الرياضة على المجتمعات المختلفة. وتنظم أيضاً ورش عمل وندوات حول الفن والثقافة والرياضة، حيث يلتقي الفنانون والرياضيون والمثقفون لتبادل الأفكار والخبرات، ما يعزز الحوار الثقافي ويشجع على التعاون بين مختلف الفئات.
لا ننسى الفعاليات الأدبية التي تشمل قراءات شعرية، وحلقات نقاش حول الأدب والرياضة، ومسابقات كتابة تعزز الإبداع الأدبي المرتبط بروح الألعاب الأولمبية التي تجمع الناس من مختلف أنحاء العالم في أجواء احتفالية. وتعزز تلك المعطيات قيم الوحدة والسلام التي تمثلها الألعاب الأولمبية، وتتيح للفنانين والمبدعين فرصة للتعبير عن إبداعاتهم وتقديم أعمالهم لجمهور عالمي، ما يساهم في دعم الفنون والثقافة.
إرث لا يُنسى
اليوم، ونحن نسترجع هذه الفترة الذهبية، ندرك أن الشعر والفن كانا في يوم ما جزءاً من الاحتفاء العالمي بالإنسانية في أروع صورها. جرى ذلك في سنوات تبارت الكلمات والألوان والألحان على مضمار واحد مع الرياضات المختلفة، وذكّرتنا بأن الروح الرياضية ليست في القوة البدنية وحدها، بل أيضاً في الإبداع والتعبير الفني.
وفي النهاية، قد تكون المسابقات الفنية قد انتهت، لكن قيمتها وإرثها يظلان خالدين، ويعبران عن التكامل بين القوة والإبداع، وبين الجسم والعقل، ضمن سعي البشرية الدائم نحو الكمال.