يكاد الأدب العربي المعاصر، أو ربما آداب العالم، تتقلص لتنحصر في جنس أدبي واحد، يحظى بإقبال الكُتّاب، وطبع الناشرين، وتلقّي القراء، والهيئات والمؤسسات الراعية للأدب. الرواية وحدها تكاد تتنزل نصاً مفرداً يواصل النقد الأدبي المغبون بدوره الاهتمام به، ومن خلال متونها يرصد ما يطرأ من تغيّر وتجدّد على مستويات البناء والصياغة والتصور والرؤية، إجمالاً إلى فنّها؛ ويتبيّن انعكاسات التحولات الاجتماعية والاقتصادية المحلية والكونية على أديم نصوصها الواقعية والاستبطانية والمستشرفة في خضمّ عالم متغيّر.
يراها الأكاديمي والناقد محسن جاسم الموسوي الأستاذ في جامعة كولومبيا، أكثر من هذا، إذ يجد التقييمات السابقة أدواراً تقليدية تجاوزتها الرواية العربية في الألفية الثالثة، بعقديها المنصرمين والثالث الذي نعيش.
"بنية الاضطراب ـ الرواية العربية في الألفية الثالثة" هو عنوان الكتاب البحثي للموسوي، صادر حديثاً عن منشورات مركز اللغة العربية أبو ظبي (سلسلة البصائر للبحوث والدراسات بإشراف الدكتور علي بن تميم). وبما أن الدراسة منجزة بدعم المنح البحثية للمركز، فهي تضع على صاحبها مسؤولية مضاعفة ولا تقبل التفاوت، على الرغم من أنه ميدان نسبيّ ومتعدد المنظورات والمقاربات، منها التي اختار الباحث، أعلن عنه بتسمية "النقد الأدبي البيئي"، وهو نوع من النقد قرين بالاهتمام الذي أصبح الحفاظ على البيئة واعتبار عناصرها وتمثيلاتها في النصوص الأدبية تناله وتنطق به. وهو بِكرٌ في دراساتنا، نماذجه معدودة منها دراسة معتبرة للدكتور محمد الشحات: "السرديات الخضراء، مقاربات إيكولوجية في الرواية العربية" (دار العين 2024).
تحولات قسرية
يعرِّف الموسوي في مدخل كتابه هذا النقد بانتباهه لاستحضار الجميل في الطبيعة والمكان في مواجهة "القهر الجاري للمياه والتربة، والتلوث الذي يجتث نضارة الحياة والكلمات والأشياء (...) وتدخل في هذا الموضوع المحن التي تمر بها البشرية جرّاء الحروب والتهجير القسري، وعشرات المشكلات التي تجعل البشرية ترى البيئة"(11).
يحدد محتوى الكتاب في مناقشة "مجموعة فرضيات تتجاذب حركة السرد ووظائفه واشتغالاته في ضوء التحولات القسرية والطبيعية التي تتشكل منها مهاداته في مطالع الألفية الثالثة"(15). ويستقي مفهوم الاضطراب مما يسميه (أثر الفراشة) أي ما تحدثه حركة صغيرة أو كبيرة في عالم اليوم من تأثير من خلال التخطيط العولمي والنظام العالمي الجديد والليبرالية الجديدة على ماهية السرد العربي.
وتفسير مضامين وتجليات (بنية الاضطراب) يعرضها في ثمانية فصول كلٌّ منها يحمل عنواناً، تيمة تنضوي تحته عناوين صغرى تخص رواية مدروسة وتحديداً لمسألة نقدية من صلبها:
1ـ معايشة النص المضطرب، يدرس فيها كيف ينطوي نصٌّ ما على آخر سابق له، وكيف تُكتب السيرة الذاتية روائياً.
2ـ بنية العنف في الرواية العربية، تُعنى خصوصاً بجغرافيا السرد (الفضاء وإنتاج المكان) من قراءة رواية (تانكي) للعراقية عالية ممدوح.
3ـ هويّات الاغتراب، تعنى بالكتابة النسوية، عبر روايات كاتبات، والتركيز على تجربة المصرية إيمان مرسال في "في أثر عنايات الزيات" وهي تركيب بين تحقيق وسيرة شخصية وثقافية ومسار كاتبة التحقيق.
4ـ الاشتباك السردي: القصد به تداخل السرد التخييلي بالتاريخ أخباره ووقائعه، وبالإحالة إليه، واستدعائه، والاستشهاد بالوثيقة.. كذلك التناص الموضوعي والذاتي، حين تتكئ المدونة السردية على أخرى أو عمل للمؤلف نفسه.
5ـ رواية الجوائز: هنا يدرس الباحث ما يفترض أن ظاهرة الجوائز الأدبية أثرت به على صياغاتها وهو فصل دخيل غير مقنع البتة.
6ـ توالدات النص والرواية المغايرة: يشرحها بالرواية الواعية بذاتها، إذ تبنى على التساؤل وتأخذ دور القارئ والناقد وتعتمد الحوار والتساؤل في أمور فنية وحياتية ووجدانية. مثالاً لها "أرض الغيتو" لإلياس خوري. 7ـ رواية الاحتلال في العراق.
8ـ تنويعات على شعرية السرد.
تغيرات فكرية
بعد انتهاء القارئ من هذه الدراسة الواسعة والمركبة (402) لا بد بطرح السؤال: بم تختلف أو ماذا تحمله جديداً عما سبق لمؤلفها أن وضعه في كتابه" انفراط العقد المقدس: منعطفات الرواية العربية بعد محفوظ" (1999) حيث رصد ما أحدثته جملة تغيرات فكرية اجتماعية وسياسية من تأثيرات على الكتابة السردية تبلورت في نسق (حساسية جديدة) خارج الملحمة البورجوازية المحفوظية، وصارت تعبر عن مخزون ذوات أصحابها ووعيهم؟
يجيب عنها الأستاذ الموسوي نفسه بأنها وقفت على الاضطراب الذي ساد الرواية جرّاء (تعاظم حروب الدمار والتهجير) وبتلاقحها مع مدوّنة سردية أجنبية حاضرة فيها، وعدم انتظامها في اتجاهات واضحة "لأن النص الواحد هو مجموعة أنساق جامعُها الاضطراب أسلوباً ومنهجاً ومراداً" (401) ما لا يمنع من سيادة نزعات دون أخرى من قبيل "الركون إلى التاريخ العائلي، والمجتمعي، والمحلي، والوطني، والقومي، يمنح الرّوي [السرد] نسقاً تسلسلياً على أنه مجموعة بدائل لما كان مألوفاً ومقبولاً أو متوارثاً" (401).
كما انتبهت لاختلاف روايات الألفية الثالثة من ناحية استعاضتها لما تسبب فيه (ماكنة الاحتلال) من تمزق وتشتت غير قابل للجمع، أو اللجوء لجمعه بآليات مختلفة عن ذي قبل "بالكوابيس والأحلام لترميم جسد السرد المنتهك".
في كتابه الأخير هذا بذل الأستاذ محسن جاسم الموسوي جهداً ملحوظاً في جمع أهم وأبرز الأعمال الروائية العلامات الصادرة في الألفية الثالثة في العالم العربي، لا المشرق وحده كما دأب على هذا أغلب الدارسين، ووضعها في سياقاتها الموضوعية المنتجة لها والمؤثرة فيها ومنها الأيديولوجيات الكبرى المتحكمة، مستخدماً في القراءة مناهج لا منهجاً واحداً، مغلباً مساطر واصطلاحية ومفاهيم النقد الثقافي، وثقافة موسوعية بنى بها الأطر التي تحتوي النصوص والمتعاليات الموجهة لها، غير ميّال لما يصفه بـ"النقد الأدبي المتحذلق" وإن نبه في مقدماته إلى أن النقد (الإيكولوجي) لا يقطع الصلة بالمزاوجة الأدبية الفنية ولا يهجر جماليات الأدب.
فيما هجرها واضعاً المصادر المعتمدة في خدمة مقولات نظرية ومفاهيم شمولية قبْلية من حقول معرفية غربية رغم محاولة تبيئتها، أكثر منها مستنبتة من عوالمها ورؤاها الخصوصية الألصق بتربتها وتأثيراتها المحلية، من مقولات شعارية (النظام العالمي الجديد) و(التخطيط العولمي) و(الليبرالية الجديدة) ورطانات أخرى كهذه باتت تستعمل بإفراط.
ولكي ننصف هذا البحث الموسوعي أكثر، نقول إنه بناءً على مناهجه، وقاموس مصطلحاته، وصنف مرجعياته، وطرائق تحليله، ومواطن تأملاته، واستطراداته في إحالاته التاريخية والفلسفية والأيديولوجية؛ نقول إن بحثه لا ينتمي إلى النقد الأدبي ولكن إلى نظرية الأدب بوصفها تفكيراً في الأدب، وهذه أرقى وأدق بما أنها تعنى بالمنهج والنظام والأنساق والنصوص تكون خادمة لها، وهذا ما أوصله في الأخير وبالاعتماد على العناصر الثاوية فيها والبانية لدلالاتها وأحياناً لدوالها وبنسب تَعالُق متفاوتة إلى استخلاص البنية التي وصفها بـ(الاضطراب).
وبما أن هذا البحث اتصف بنزعة علمية صارمة، وتنزّه عن الذاتية والأحكام القطعية، فإننا لا نجد بُداً من طرح سؤالين في ختام هذه الإحاطة: أولُهما، إلى أيّ حدّ يمكن اعتماد صفة "الاضطراب" مصطلحاً قابلاً لتوصيف نظري سديد، بما أنّ معناه لغةً التململ والاهتزاز، والبنية شيء ثابت مستقر بعد حين، إلا يصح أن نعتبره بالأحرى إيقاعاً؟
ثانيهما: أليس تاريخ الرواية العربية، والرواية في آداب العالم، بولاداتها وتجلياتها وهياكلها منذ نشأتها إلى راهنها في حركة اضطراب مستمر نتج منها مدارس وتيارات؟ بما أن الرواية العربية لم تعمِّر أكثر من قرن فهي لا تزال عندنا جنساً أدبياً فتياً تتوالى فيه المراحل وتتجاور التيارات وتلهث التجارب والتجريبيات، فإن ضبط القطائع لا يتم تحديده بالتحقيب الزمني، بالقرن أو الجيل، ولكن بغيرها مما تناول بعضه البروفسور الموسوي ويجتهد قلة من الأكاديميين والدارسين الجادين لبلورته ومفهمته في ضوء ما يجِد من نصوص، لذلك نراهم يستخدمون، يجربون أكثر من منهج، وبالتالي يسِم الاضطراب مقارباتهم الجادة.