النهار

تحيّزات اللّغة والجنس والسيّاسة في أولمبياد باريس
شريف صالح
المصدر: القاهرة- النهار العربي
انتهت أولمبياد باريس لكن لم ينته الجدل الموازي حول هوية لاعبة الملاكمة الجزائرية إيمان خليف واتهام اللاعب المصري "كيشو" بالتحرش، والفروق بين الذكورة والأنوثة و"بكيني" الكرة الشاطئية ومؤامرة الماسونية في فقرة "العشاء الأخير" في حفل الافتتاح. تصعب قراءة الحدث الرياضي الذي يضم عشرات الألعاب ويشارك فيه آلاف المتنافسين، بوصفه مجرد إحصاء للميداليات والأرقام القياسية، لأنه حافل بالدراما والدموع والفرح وقصص الحب والنضال والدعاية السياسية و"بيزنس" العلامات التجارية، ومستويات التخطيط والاقتصاد والصحة العامة والإعلام. فالكلام ليس عن الحدث الرياضي نفسه، وإنما عن الظلال المحيطة به والترندات المُثارة بكل حمولتها النفسية والثقافية.
تحيّزات اللّغة والجنس والسيّاسة في أولمبياد باريس
البطلة الجزائري ايمان خليف
A+   A-
انتهت أولمبياد باريس لكن لم ينته الجدل الموازي حول هوية لاعبة الملاكمة الجزائرية إيمان خليف واتهام اللاعب المصري "كيشو" بالتحرش، والفروق بين الذكورة والأنوثة و"بكيني" الكرة الشاطئية ومؤامرة الماسونية في فقرة "العشاء الأخير" في حفل الافتتاح.
تصعب قراءة الحدث الرياضي الذي يضم عشرات الألعاب ويشارك فيه آلاف المتنافسين، بوصفه مجرد إحصاء للميداليات والأرقام القياسية، لأنه حافل بالدراما والدموع والفرح وقصص الحب والنضال والدعاية السياسية و"بيزنس" العلامات التجارية، ومستويات التخطيط والاقتصاد والصحة العامة والإعلام.
فالكلام ليس عن الحدث الرياضي نفسه، بل عن الظلال المحيطة به والترندات المُثارة بكل حمولتها النفسية والثقافية.
 
 
تحيز اللغة
تفرق منصة التتويج بين منتصرين وخاسرين، وفق قواعد معينة، وقانون البقاء الأقوى أكثر منه للعدالة والتعاطف. وتبدو القواعد محايدة ومتكافئة، لكن ما تنفقه أميركا لإعداد بطلة أولمبية لن يتساوى مع ما تنفقه دولة مثل لبنان.
فلا يمكن إلغاء التحيز أو "اللاعدالة" على كل المستويات، لأنه كامن في بنية اللغة والوعي الإنساني؛ فاللغة العربية مثلاً، ومثلها الفرنسية، حين تتحدث عن لاعبات بينهن لاعب واحد، تستعمل جمع المذكر لأن أفضلية رجل واحد تفوق أكثرية النساء. ومفهوم "الحكم" يستعمل بصيغة المذكر ليعبر عن الجنسين. ولا يخفى ارتباط ذلك بالميثولوجيا والقصص الدينية حيث تُلحق المرأة باعتبارها تابعة للذكر أو مجرد جزء منه.
في حين أن فكرة الأولمبياد تطمح للمساواة شبه المطلقة بين الجنسين، بإتاحة الألعاب كلها سواء بسواء. لكنّ هذا المبدأ العام لا يصمد أمام شيطان التفاصيل.
 
رمزية الملابس
في الكرة الشاطئية تجددت أزمة البكيني/الحجاب، حيث اعتبرت اللاعبات العربيات والمسلمات إجبارهن على "البكيني" تحيزاً ضدهن، وعدم مراعاة للتنوع الديني والثقافي، لذلك سمحت الجهات المنظمة بارتداء أكمام طويلة وسراويل ضيقة، وهكذا ظهر فريق السيدات المصري، بينما التزم الفريق الأميركي بالبكيني. فالتحيز انتقل من اللغة إلى الزي ووظيفته الاجتماعية والدينية. برغم أننا لن نعدم من يدين السراويل الضيقة لأنها غير شرعية.
ألعاب غير أنثوية
تحيز آخر يتعلق بطبيعة الألعاب نفسها، فالمصارعة ورفع الأثقال والملاكمة لا تتناسب مع "الأنوثة" في نظر بعضهم ومنهم الروائي المصري يوسف زيدان الذي طرح سؤالاً: "لماذا تمارس النساء أصلاً لعبة "الملاكمة" التي هي من بقايا الزمن الهمجي الأول للبشرية؟".
السؤال مفخخ بتحيزين، أولهما في تصوره بأنّ أنوثة المرأة لا تتناسب مع ممارسة ألعاب معينة، وهو في ذلك لا يختلف عن النظرة العربية والإسلامية عموماً. التحيز الآخر تحقير بعض الألعاب واعتبارها إرثاً همجياً.
في المقابل، لن نعدم من ينتقد ممارسة الرجال للجمباز أو للسباحة الإيقاعية، انطلاقاً من تصنيف مسبق للذكورة والأنوثة.
 
 
حالة إيمان خليف
احتشد معظم العرب والمسلمين وراء الملاكمة الجزائرية إيمان خليف، ليس لمجرد كونها "أنثى" بل لأنها تمثل ثقافة جنوب المتوسط العربي والمسلم. تمثل المستعمَر القديم في مواجهة المستعمِر الأبيض. ومعظم من انتقدوها أو دافعوها، دخلوا المعركة عبر دوائر تحيزاتهم.
لا شك بأن الطعن في أنوثتها مهين وعنصري، لذلك اعتبرت إيمان فوزها بالذهبية رد شرف لها، فيما أعلن محاميها مقاضاة كل من تنمر عليها وتوجيه تهم "التحرش الإلكتروني".
ومن أبرز من ساندوها الأميرة ريما بنت بندر عضو اللجنة الأولمبية الدولية وسفيرة المملكة العربية السعودية في واشنطن، وربطت دفاعها بهويتها هي أيضاً كعربية ومسلمة.
بينما كان المرشح الرئاسي الأميركي دونالد ترامب أشهر من خاض السجال ضد إيمان، وتبنى الموقف الكلاسيكي للرجل الأبيض، فهو ينظر لبنت الجنوب السمراء بعدوانية، ولا شعورياً يرفض أن تهزم منافستها الإيطالية "البيضاء" في 45 ثانية، ويبرر عدوانيته بالطعن في أنوثتها وأنها "متحولة"، فيما وصف الإيطالية أنجيلا كاريني بـ"المرأة الجميلة". أي أنه يدافع عن انتمائه السياسي والعرقي والثقافي، وحتى ذوقه في النساء.
وشاركه المنطق نفسه إيلون ماسك، وجاي كاي رولينغ مؤلفة هاري بوتر، ورئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني برغم أن اللاعبة الإيطالية نفسها اعتذرت لإيمان.
هؤلاء المشاهير يستثمرون في خطاب شعبوي لليمين الأوروبي ـ الأميركي، ضد الأقليات العرقية، والتغيرات الاجتماعية، وحقوق المهاجرين، ويستغلون المنصات الرياضية العالمية لمغازلة جمهورهم.
الطريف أن ممثل روسيا في مجلس الأمن اعتبرها "رجلاً" لأهداف مغايرة عما قصده ترامب، لكن ضمن مخطط غربي ـ من وجهة نظره ـ لهدم الفروق بين الرجال والنساء وتشجيع عمليات التحول!
 
 
 
مأزق التستوسترون
نشأت الأولمبياد قبل أكثر من ألفي عام للاحتفاء بالذكورة وقيمها: القوة، والتفوق، والشجاعة، والنبل، وظلت لمئات السنين فضاءً لاختبار الرجولة، ثم انضمت إليها الأنوثة ـ على استحياء ـ في ألعاب معينة تناسب التصورات الدينية والاجتماعية عن ماهية "الأنوثة"، لكن شيئاً فشيئاً انضمت المرأة إلى ألعاب ذكورية مثل رفع الأثقال وكرة القدم، وتباهى منظمو أولمبياد باريس بتحقيق المساواة الكاملة للمرة الأولى.
طموح مشروع، لكنه يصطدم بأمور معقدة مثل طبيعة الهرمونات والتغيرات الفيسولوجية، فمثلاً لاعبة السلاح المصرية ندى حافظ بعدما خسرت، أعلنت أنها "حامل في السابع"، فكيف تقدر على المنافسة مع أعباء الحمل وهو ما لا يتعرض له الرجال؟! كذلك لاعبة الملاكمة المصرية يمنى عياد استبعدت بسبب زيادة وزنها سبعمئة غرام عن الوزن الخاص بالمنافسة، والسبب تغيرات خاصة بجسد المرأة!
لا شك بأن معظم ألعاب الأولمبياد بما تتطلبه من قوة وتحمل، تخدم نمو هرمون التستوسترون الذي يميز الذكورة عن الأنوثة، وأي لاعبة تشترك تكتسب قوة وخشونة جسدية بدرجة ما، وتكفي نظرة بسيطة على البنية العضلية للمشاركات.
فالمسألة هنا معقدة والجدل مستمر منذ سنوات.. فهل نحن نتحدث عن اضطراب هرمونات أم اضطراب جيني يتعلق بهوية النوع منذ البداية؟ ولو امتلكت مشاركات صفات ذكورية نتيجة هرمومات أو خلل جيني، فهل هذا يعني أنه تنطبق عليهن "الذكورة المعيارية" ويفترض أن ينافسن الرجال؟ هل التفوق الرياضي مرتبط بطبيعة الهرمونات وحدها أم له أبعاد نفسية واجتماعية؟ وإذا كانت مجتمعات كثيرة الآن تسمح بالعبور بين الجنسين، أفليس من حق هؤلاء العابرين أن يمثلوا؟
 
موقعة كيشو
لا تنفصل واقعة خليف عما حدث مع الملاكم المصري محمد إبراهيم "كيشو" وانتشار ترند القبض عليه فجراً في حالة سكر ومتهماً بالتحرش بشابة فرنسية، ما تطلب تدخلاً سياسياً رفيع المستوى إلى أن أسقط الادعاء الفرنسي جميع التهم عنه وأطلق سراحه لعدم كفاية الأدلة.
وما زالت هناك جوانب غامضة في القصة، لماذا غادر "كيشو" معسكره؟ لماذا ادعت عليه الفتاة دون غيره؟ لماذا قبضت عليه الشرطة بهذه السهولة ما لم تثبت التهمة؟ هل للأمر علاقة ببشرته السمراء ولحيته الخفيفة؟ هل كانت الشابة تدرك أنه لاعب أولمبي وسعت للشهرة والابتزاز؟ المؤكد أن لونه ودينه وجنسيته، كل ذلك ساهم في سرعة توجيه الاتهام إليه. 
أي أننا في ملعب واسع ومعقد لصراعات رمزية وتحيزات معلنة ومضمرة بدءاً من اللغة، مروراً بالتاريخ والأديان، وصولاً إلى الكولونيالية والجندرية، من ثم تبدو فكرة المساواة الكاملة بين الجنسين مجرد حلم طوباوي يصعب تحققه على أرض الواقع.
 

اقرأ في النهار Premium