النهار

حوار الزجاج في صمت الهنيهات (2 من 2)
هنري زغيب
المصدر: بيروت- النهار العربي
تعود بادرةُ تزيين النوافذ بزجاجيَّات ملوَّنة زخرفيَّة إِلى الأَمبراطورية الرومانية. وإِبان العصور الوُسطى تعمَّمَت هذه البادرة الزخرفية فظهرت على نوافذ الكنائس والكاتدرايات وبعض الأَبنية الخاصة الكبرى، ثم توسَّعَت إِلى صروح غير مسيحية، لِما فيها من جمال هندسي كما تبدو النوافذ في الداخل وكما تظهر في الخارج من قريب أَو بعيد، خصوصًا عند انعكاس أَشعة الشمس عليها وفق التوقيت صباحًا أو ظهرًا أَو غُرُوبًا.
حوار الزجاج في صمت الهنيهات (2 من 2)
زجاجية العائلة المقدَّسة (برشلونة)
A+   A-

تعود بادرةُ تزيين النوافذ بزجاجيَّات ملوَّنة زخرفيَّة إِلى الأَمبراطورية الرومانية. وإِبان العصور الوُسطى تعمَّمَت هذه البادرة الزخرفية فظهرت على نوافذ الكنائس والكاتدرايات وبعض الأَبنية الخاصة الكبرى، ثم توسَّعَت إِلى صروح غير مسيحية، لِما فيها من جمال هندسي كما تبدو النوافذ في الداخل  وكما تظهر في الخارج من قريب أَو بعيد، خصوصًا عند انعكاس أَشعة الشمس عليها وفق التوقيت صباحًا أو ظهرًا أَو غُرُوبًا.

اليوم باتت الزجاجيات تزيِّن المساجد والأَبنية الحديثة في هندسات جميلة ذات سطوع لافت.

في الجزء الأَول من هذا المقال عرضتُ ثلاثة صروح شهيرة... هنا، في هذا الجزء الآخَر،  خمسة صُرُوح أُخرى تتزيَّن نوافذها بالزجاجيات الجميلة.

كاتدرائيات فرنسية من العهد القوطي

أَفضل نوافذ مزجَّجة هي الطراز القوطي في فرنسا. نبدأُ بالكاتدرائيات في فرنسا، وهي ثلاث:

1. الكنيسة المقدسة Sainte Chapelle: هي تحفة معمارية في قلب باريس. تعود إِلى منتصف القرن الثالث عشر. تعلو جدرانُها نحو 15 مترًا مغطاة كاملةً بالزُجاج الملوَّن. فيها 15 نافذة ممتلئة، وزجاجها الملوَّن ليس زخرفيًّا وحسْب بل تربويٌّ تثقيفيٌّ أَيضًا، كما معظم حرفيات القرون الوسطى. فيها نحو 1100 مقطع من الكتاب المقدس والتاريخ المحلي ووجوه سياسية، منها الملك لويس التاسع  (القديس لويس لاحقًا) الذي جاء بالذخائر المقدَّسة إِلى المدينة. ومن ذلك أَنه شفيع هذه الكنيسة.

2. كنيسة نوتردام ("سيِّدة باريس") هي أَيضًا من العهد القوطي، وتشتهر بنوافذها الزهرية المزجَّجة الكبرى الثلاث. وأَشهر الثلاث هي الزهرية الجنوبية. صمَّمها الفنانان جان دوشيل De Chelles وبيار دو مونترُوْيْMontreuil  في النصف الآخر من القرن الثالث عشر. عُلُوُّ النافذة نحو 13 مترًا وتحوي 84 لوحًا زجاجيًّا، في أَربع دوائر فيها مشاهد من الكتاب المقدس وكلمات منه ورُسُل وملائكة. والحريق المأْسوي الذي شب في هذه الكنيسة التاريخية سنة 2019 أَتى على معالِم كثيرة من الكنيسة لكن لوحات النوافذ المزجَّجة بقيَت سليمة.

من زجاجيات كنيسة نوتردام ("سيِّدةباريس")

 

3. كاتدرائية شارتْرْ (في الجنوب الغربي من باريس): يرى مؤَرخو الفن أَن الأَلواح الزجاجية فيها (عددها 167) هي من الأَجمل في العالَم. من هنا أَن هذه الكاتدرائية هي اليوم على "لائحة اليونسكو للتراث العالَمي"، وأَن تلك النوافذ ما زالت على طبيعتها الأُولى منذ بنائها بين منتصف القرن الثاني عشر ومطالع الثالث عشر. مواضيعُها من الكتاب المقدس ومن الحياة المدنية بين ملوك وملكات وفرسان وكهنة. ويرجَّح أَن النافذة الأَقدم بينها هي التي فيها زجاجية "العذراء بالأَزرق"، وتبدو فيها مريم جالسةً متوَّجَةً على عرش، وفي حضنها ابنُها يسوع.

زجاجيات "الكنيسة المقدَّسة" - باريس

 

"العائلة المقدَّسة" في برشلونة

صمَّمها المهندس المعماري الشهير أَنتوني غاودي (1852-1926)، وفيها قوس ملوَّن. حاول مصمِّمُها المبدع أَن يتَّبع ويتجاوز العهد القوطي لإِضفاء طابع المعبد على الكنيسة. ففيما النموذج القوطي في الكاتدرائيات أَن تكون الأَلواح الزجاجية السميكة هي العُليا كي يدخل منها النُور، والأَلواح السُفلى هي الأَقلُّ سماكةً بل الشفافةُ والأَقلُّ تلوينًا ما يخلق نوعًا من التوازُن في انعكاس النُور في داخل الكاتدرائية، شاء غاودي أَن ينفِّذ العكس: جعل الأَلواح الشفافة في القسم الأَعلى من النافذة كي تُدخل النُور إِلى فسيفساء الكنيسة، بينما جعل الكلمات والصوَر في القسم الأَسفل لتسهيل قراءتها وقوفًا في أَرض الكنيسة. وبذلك خلَقَ الفنان تضادًّا جميلًا في الحركة الهندسية.

ومن خصائص هذه الكنيسة أَنها، كلَّ عامٍ في الحادي والعشرين من كانون الأَول/ديسمبر (موعد انقلاب الشمس شتاءً)، تروح الأَشعةُ عصرًا تتخذ شكلًا أُفقيًّا يعانق صحن الكنيسة فيعكس على المذبح خيوطًا متماوجةً من أَنوار الغُرُوب، حتى ليشعر مَن في الكنيسة أَنهم يستدفئون أَمام موقدة شتائية.

 

نوافذ فرنك لُوْيْد رايت

هو المهندس الأَميركي المعماري الشهير (1867-1959). أُخذ منذ مطالع مسيرته الهندسية بزجاج النوافذ، فنفَّذ منازل وقصورًا وأَبنية، محاولًا وضع أَشكال هندسية تجريدية في الأَلواح الملوَّنة، فاستخدم إِجمالًا أَلواحًا بيضاء أَصلية شفافة زاد عليها بعض الأَلوان. ولم ينفِّذ عمله في بناء كما في بناء سابق بل كان يصمِّم جديدًا لنوافذ كل مبنى على حدة، مستلهمًا أَشكالًا مختلفة، أَبرزُها التصاوير اليابانية التي فيها خطوط سوداء عريضة تُجانبُها فسحات ملوَّنة عريضة.

من زجاجيات فرنك لُوْيْدرايْت

 

شبيه الملكة القديسة أَدِلايِــيْــد

في المملكة المتحدة (مدينة كمبردج شاير) جوهرة نادرة لِمحبِّي النوافذ المزجَّجة الملوَّنة، هي "متحف الزجاج الملوَّن" في كاتدرائية إِيلاي الأَنكليكانية. نفَّذها الفنان الأَميركي كيهينْد ويلي (م.1977): زجاجية عالية (متران ونصف المتر) فيها رجل أَسمر البشرة، استوحاها من الرسم التقليدي للقديسة أَدلاييد، وهو شائع في كنائس الغرب.

شاب رياضيّ على نسَق القديسةأَدِلاييد 

 

واشتهر الفنان بأَعماله التي فيها سُمْر البشرة، يمثِّل فيها رجالًا دينيين أَو أُسطوريين أَو تاريخيين. وهو استند إِلى شكل القديسة أَدِلاييد (من ملكات العصر الروماني) ليُحِلَّ مكانها صورة شاب أَسمر البشرة يرتدي الجينْزْ وينتعل حذاءً رياضيًا.

اقرأ في النهار Premium