في كتابه المهم "المغول والعالم الإسلامي: من الغزو إلى اعتناق الإسلام"، يذهب المؤرخ البريطاني بيتر جاكسون إلى أن آثار الحكم المغولي في الأراضي الإسلامية الشرقية ظلت غير معروفة لفترة طويلة. والحقيقة هي أن صورة المغول في أذهاننا لا تزال ترتبط إلى الآن بكل ما هو همجي ومدمر، على الرغم من أن قادتهم اعتنقوا الإسلام في مراحل لاحقة على غزواتهم، وأنشأوا بفضلها إمبراطورية مترامية الأطراف.
يخلص هذا الكتاب الذي صدرت منه أخيراً نسخة عربية عن المركز القومي للترجمة في القاهرة بترجمة أستاذة الآثار والحضارات القديمة في جامعة القاهرة منى زهير الشايب، إلى أن النتائج الإيجابية هي أقل من الأضرار التي لحقت بالمراكز الحضرية الإسلامية التي غزاها المغول. فهو لا ينكر الأضرار التي سببتها غزوات المغول، لكنه يؤكد أنهم في المقابل أحدثوا تحولاً في العالم الإسلامي، يعد إنكاره من قبيل السفسطة.
"المبالغة المفرطة"، يقول جاكسون، هي التعبير الدقيق عن العديد من الروايات المعاصرة عن غزوات جنكيز خان، وربما تمت بالفعل المبالغة في الآثار الضارة للغزوات المغولية من مؤلفي العصور الوسطى والمؤرخين المعاصرين.
ونشأ هذا – في تصور جاكسون - من حقيقة أن المغول تمكَّنوا من الوصول إلى تقنية حصار أعلى بكثير من تلك التي كانت عند أسلافهم في السهوب، ما مكَّنهم من تدمير عدد أكبر من النقاط الحصينة في غضون بضع سنوات.
وعلى الرغم من أن جيوش جنكيز خان ضمَّت وحدات كبيرة بها أمراء مسلمون، وعلى الرغم من انضمام العديد من المسلمين المرموقين إليه في إطار رحلته باتجاه الغرب من 1218 إلى 1224، فلا يبدو أن هذا قد خفّف من حدة الهجوم. وعلاوة على ذلك، كانت التكتيكات التي استخدمها المغول قاسية في كثير من الأحيان.
جنكيز خان وهولاكو
لاحظ المؤرخ البريطاني أن الحملة الثانية التي أرسلها الخاقان مونكو، لم تكن مثل حملات جنكيز خان الانتقامية. ومع ذلك، كان الغرض منها إخضاع إيران والأراضي المحيطة بها. واتصفت عمليات هولاكو بتأثير تدميري أقل بكثير على الأراضي الإيرانية من تلك التي قام بها جده، لكنها مع ذلك تستحق أن تصنَّف إلى جانب الغزو السابق بسبب تأثيرها على العراق وسوريا، حيث نُهِب عدد من المدن، وتعرض السكان لمذابح وترحيل انتقائي، كما كانت الحال في زمن جنكيز خان.
لم يظهر هولاكو وخلفاؤه المباشرون (باستثناء تكودار أحمد) أي ميل للخضوع للتأثيرات الثقافية الإسلامية، لكنهم كانوا مع ذلك يعتمدون على طبقة رسمية يغلب عليها المسلمون. وهناك مؤشرات "طفيفة" على أن المغول الذين عاشوا في المراكز الحضرية أو بالقرب منها كانوا أكثر عرضة للدخول في الإسلام.
جاءت المبادرة في عملية الأسلمة من الحكام المغول وتبعهم القادة والجنود. ولكن من الواضح أن هؤلاء الخانات الذين اعتنقوا الإسلام كانوا يستجيبون، في كثير من الأحيان، بحسب جاكسون، لوجود أعداد كبيرة من الجنود الذين تحوَّلوا إلى الإسلام. وربما تأثروا كذلك بدوافع أخرى غير تأمين دعم قادتهم العسكريين: الرغبة، مثلاً، في الوصول إلى دائرة مسلمة داخل منطقة كانت لديهم مخططات لها، أو تدعيم قبولهم في نظر النخب المسلمة، أو حتى لتعزيز الجاذبية التجارية في مناطق سيطرتهم.
يقول جاكسون في خلاصة كتابه (557) صفحة: "يجب أن يؤخذ في الاعتبار، علاوة على ما تقدم، تفكك الإمبراطورية بعد عام 1260، وظهور دول خلفاء في ثلاث مناطق من غرب آسيا كانت متميزة ثقافياً. لا بد أن الخانات، الذين ترأسوا مجتمعاً تقطنه أغلبية مسلمة وتفصلهم مسافة شاسعة عن أراضي حلفائهم التولوديين في الشرق الأقصى، قد عانوا من حاجة أكثر إلحاحاً لتعزيز شرعيتهم من خلال اللجوء إلى الدين السائد. حكم الجوتشيون والجاعاطانيون، الذين استغرقوا وقتاً أطول لاعتناق الإسلام، مناطق كانت أكثر تنوعاً، وتحتوي على نسبة أقل من المسلمين".
اعتناق الإسلام
كان المجتمع المسلم القوي في ما وراء النهر والمناطق المجاورة، متوازناً إلى حد ما مع الثقافة البوذية المنافسة في إيغورستان، ما قد يساعد على تفسير التاريخ المتأخر نسبياً الذي ترسَّخ فيه الإسلام.
وهذا لا يعني أن قبول الخانات الجنكيزيين للإسلام كان بطريقة ما أجوف أو مخادعاً، كما اعتقد المماليك خصوم المغول، وهنا يوضح الكاتب أن الأسلمة كانت عملية طويلة الأمد، فلم تستلزم بالنسبة إلى الأجيال الأولى على الأقل، التخلي عن الأعراف التقليدية للسهوب، كما يتضح مثلاً من استمرار الخانات في ممارسة زواج الأخ بأرملة أخيه أو أبيه.
ويبدو أيضاً أن الخروج المتسرع عن سياسة جنكيز خان الدينية المتوازنة، يمكن أن يؤدي إلى التمرد وإطاحة الحاكم الذي اعتنق الإسلام. ويلاحظ أنه بالتزامن مع الهيمنة المغولية، أصبح جزء من كبير من أوراسيا مترابطاً ترابطاً مطّرداً. وشهدت هذه الفترة – بحسب المؤلف - نمواً ملحوظاً في التجارة بين العالم الإسلامي من جهة، والصين ومناطق أخرى من الشرق الأقصى من جهة أخرى، سواء عن طريق البر أو البحر. وكانت مساهمة المغول في هذه العملية، التي ربما كانت جارية بالفعل قبل قرن أو قرنين، في عصر السلاجقة وكيتان لياو، تتمثَّل في تبسيط الضرائب التجارية وتقديم رأس المال للتجار المفضَّلين.
وحفَّز عصر الهيمنة المغولية النشاط الفكري والثقافي في العالم الإسلامي، ما جعل الأراضي الإسلامية الشرقية في اتصال أوثق من أي وقت مضى مع الصين، وسهَّل نقل الأفكار العلمية والطبية وإنتاج الأدوات وغيرها من المصنوعات اليدوية.
عمل تعاوني
وفي هذا السياق جمع حكام الإلخانية بين العلماء الصينيين والمسلمين الذين تعاونوا في أنشطة مثل تأليف تقويم متعدد العصور، وترجمة الكتابات العلمية الصينية إلى الفارسية. وحتى لو تم استبعاد التأثير الصيني، يقول جاكسون، فإن العمل التعاوني الذي قام به علماء مسلمون في مرصد مراغة، تحت رعاية نصير الدين الطوسي وبعد وفاته، كان ثرياً بالنتائج، بالنسبة إلى علماء الفلك المسلمين اللاحقين ولنظرائهم الأوروبيين في القرنين السادس عشر والسابع عشر، من كوبرنيكوس فصاعداً.
وإجمالاً؛ يسعى هذا الكتاب الذي صدرت طبعته الإنكليزية عام 2017، إلى الإجابة عن عدد من الأسئلة مثل: كيف استطاع المغول إخضاع الشرق الإسلامي بمساحته الشاسعة في غضون بضعة عقود فقط؟ ما مدى الدمار الذي ألحقه هذا الغزو المغولي ببلاد المسلمين تلك، وإلى أي مدى تفاقم الضرر بسبب الحروب اللاحقة بين خانات المغول؟ كيف أثَّرت الهيمنة المغولية على الأمراء المسلمين الخاضعين لهم ورعاياهم؟ كيف اقتنع أفراد السلالة الجنكيزية وقادتهم العسكريون وأتباعهم باعتناق الإسلام؟ ما الذي تغيَّر نتيجة لذلك؟ ما تأثير الوجود المغولي على الأراضي الإسلامية؟ ما العواقب المترتبة على اندماج دار الإسلام في إمبراطورية عالمية متصلة على نحو وثيق بحضارة الصين القديمة؟
جاءت الأجوبة عن هذه الأسئلة، إما جزئية أو مؤقتة أو تأملية. واعتمد الكاتب إلى حد كبير، على أعمال كتاب القرنين الثالث عشر والرابع عشر، الذين كتبوا بالفارسية والعربية، وبدرجة أقل على مواد علمية باللغتين اللاتينية والفرنسية القديمة، وثَّقها دارسون من أوروبا الغربية وزوار لإمبراطورية المغول.