انتشرت في الآونة الأخيرة الكثير من برامج التدوين الصوتي "البودكاست" عبر مواقع التواصل الاجتماعي، سواء أكانت (ترفيهية، فنية، علمية، تربوية) مستفيدةً من مزايا الانتشار السريع، وخاصيّة الاستماع في زمن العزوف المُخيف عن القراءة التقليدية. يمكننا الاستمتاع بـ"البث الصوتي" أثناء الانخراط في أنشطة أخرى، مثل العمل أو المشي أو السفر.
ربما تنحو معظم هذه البرامج في عالمنا العربي، والتي شهدت رواجاً وصل حد التخمة، منحى الإعلام التلفزيوني المعروف نحو الحوارات مع نجوم الغناء والدراما والتلفزيونية والتي تقدمهم بصورة تبدو أكثر رشاقة وأقل تكلفاً، لكنّ بعضها يُعيد اجترار الخصومات، و"يدقّ الأسافين" في ما بينهم، ويتغذى على الأخذ والرد في ما يُسمى باللغة الدارجة "الشلّي الفني" الذي يصنع "الترند" كغاية استهلاكية بحتة.
"صورة واقعية"
في المقابل، تبرز بعض النماذج المميزة للبودكاست كما هي الحال - على سبيل المثل لا الحصر - في برنامجي "ع بساط سوري" من إعداد وتقديم الصحافية السورية زينة شهلا بالتعاون مع موقع "صوت سوري"، وبرنامج "بيناتنا" من إعداد وتقديم الكاتب والروائي السوري يعرب العيسى بالتعاون مع منصة " Show 1+1" المعرفية الترفيهية المستقلة.
يخرج البرنامجان من أجواء الاستديو إلى صخب الشارع والحياة اليومية، ويتعمقان في رصد تحولاته الجديدة في زمن الحرب المستمرة منذ عام 2011، وتأثيرها على الإنسان السوري.
فيُعنى "ع بساط سوري" الذي يحمل دلالاته المعنوية من المثل السوري الشهير "ع بساط أحمدي" كتعبير عن الصراحة والوضوح في قول الأشياء، و"هو عبارة عن موسم حواري يتناول جوانب مختلفة من المواضيع الملحة والراهنة المتعلقة بتراثنا اللامادي".
يعدّ الموسم الجديد امتداداً لبرنامج "تراث مسموع" بمواضيع التراث اللامادي في سوريا، وقصصه المتجذرة في المجتمع في محاولة لإحيائه وبث الروح فيه في زمن "الشتات السوري"، وكون التراث كـ"كائن حي" هو إحدى ضحايا الحرب. وغالباً ما يكون مسرح الحوارات في بيت دمشقي تقليدي ليجسّد روح الفكرة الأصيلة للبرنامج.
بدوره، يحاول يعرب العيسى صاحب رواية "المئذنة البيضاء" أن يجمع بين الذاتي والعام بقالب حكائي بصري. تتنقل الكاميرا في شوارع دمشق التي لم تعد تشبه نفسها بموتها البطيء، بعتمتها، بعشوائياتها، يتعمق في ملامح الوجوه المتعبة، مستعيداً حكاياتٍ وقصصاً واقعية – تشبهه كما تشبه سائر السوريين - عاينها خلال تجربته الصحافية والحياتية الطويلة مستخدماً السخرية المبطنة تارةً، والتصريح المؤذي الذي يوازي حمام الدم الذي جرى ويجري، ليجيب عن أسئلة الحاضر السوري وأسباب الخراب الذي وصلت إليه البلاد ليخلق "يبابه الخاص-العام".
"بحصة بتسند جرّة"
يفتح "ع بساط سوري" الباب لوجوه متعددة عن التراث السوري ونشأته يعيشها الناس يومياً من دون أن يعرفوا كثيراً عن نشأتها. تتحدّث زينة شهلا لـ"النهار العربي" عن بدايات فكرة البرنامج بالقول: "بدأت فكرة البرنامج خلال زمالة صحافة ثقافية حصلت عليها مع أكاديمية فنية في مدينة شتوتغارت الألمانية منذ نحو ثلاث سنوات، وكانت لديّ فرصة لإنجاز مشروع خاص بي، وحينها كان لديّ اهتمام كبير بتوثيق جوانب معينة من التراث اللامادي السوري مع إحساسي بالخطر المحيق به بسبب النزاع وكل ما يرافقه من تشتت الناس وغياب أولوية هذا النوع من العمل الثقافي أمام أولويات أكثر إلحاحاً".
وتتابع شهلا: "باعتبار التدوين الصوتي أو البودكاست هو أحد أشكال الإعلام المنتشرة انتشاراً كبيراً اليوم في العالم وفي العالم العربي، فإن لها قدرة على إيصال الكثير من الأفكار للجمهور بطريقة بسيطة وسلسة وقريبة من المتابعين وبدون الكثير من التكلف".
وأما عن طبيعة البرنامج وعن أهمية الإضاءة على هذا التراث، وارتباطه باليومي المعيش رغم ما يمر به السوريون اليوم، فتقول: "الحديث عن التراث اللامادي السوري والاهتمام بتوثيقه وإحيائه وربطه بحياتنا اليومية له أهمية كبيرة اليوم. بالتأكيد من الصعب أن نتحدث عن هذه الأهمية في خضم ما نعيشه من معارك يومية لتأمين مستلزمات حياتنا".
وعن أهمية الحديث اليوم عن مواضيع التراث الوطني السوري بعد سنوات الحرب، وما أهمية النقاش حول هذه التفاصيل اليومية كونها تشكل عاملاً من عوامل الوحدة بين فئات المجتمع السوري على اختلافها تقول شهلا: "هذا التراث "الحي" هو جزء من هويتنا وثقافتنا وحياتنا، واليوم نحن أحوج ما نكون إليه في ظل كل ما نعيشه من خسارات، لأسباب كثيرة منها أن نعيد تشكيل ارتباطنا بالمكان الذي نعيش فيه وأن نؤكد هذا الارتباط، وأن نشعر بقيمة مكونات هويتنا الغنية، وأن نعرف ما يجمعنا كسوريين وما هي اختلافاتنا وكيف يمكن أن نفهمها ونعيشها".
وتؤكد شهلا: "بودكاست تراث مسموع بموسميه هو امتداد لاهتمامي كصحافية بالشأن الثقافي، هذا الاهتمام بدأ تقريباً مع بداية دخولي في مجال الصحافة منذ أكثر من سبع سنوات، وعاماً بعد آخر كنت أغوص أكثر في هذا المجال وأكتشف غنى تراثنا وجماله، وكم أنني مرتبطة به من دون أن أعرف أو أنتبه ربما، لكنه موجود في "الجينات والحمض النووي" الذي نحمله كلنا. كما كنت ألمس أهمية عملي بتوثيق جوانب مختلفة منه، والأثر الذي حققه هذا العمل وإن كان على نطاق ضيق جداً، لكن بكل تأكيد فإن "بحصة بتسند جرة".
"خاصيّة التواطؤ"
في معرض حديثه لـ"النهار العربي" عن بدايات فكرة برنامجه "بيناتنا" حيث يرتبط الاسم "بيناتنا" ربما بخاصية ترتبط بالخوف من قول الأشياء على العام أو التعبير الحر، وتناقش في مختلف الحلقات على اختلاف مواضيعها هذا الخوف، يقول يعرب العيسى: "في البداية أردت أن يكون اسم البرنامج "الحلقة الأخيرة" لأن ما يجري في بلادنا يشبه أحداث الحلقات الأخيرة في المسلسلات. وخططت أن يكون البرنامج بكامله استعادة لحلقات سابقة من هذا المسلسل الطويل الذي نعيشه منذ الاستقلال".
ويتابع العيسى قائلاً: "الحلقة الأولى من الموسم الأول كانت بعنوان: "بيناتنا" وحكيت فيها عن هذه الخصوصية السورية القائمة على تواطؤ يتشارك فيه 25 مليون سوري، يتظاهرون أنهم لا يعرفون كيف تجري الانتخابات، المسيرات، أيام العمل الطوعية، تعيين المسؤولين، آليات الفساد... وفكرتها كانت أن الجميع يعرف، والجميع يقول: خلّوها بيناتنا. وحين سجَلت الحلقة اقترح علي رامي عمران مدير المنصة أن نجعل الكلمة عنواناً للبرنامج، اقتنعت خلال ثانية واحدة، وتغيير الاسم قادني بالتدريج لموضوعات أخرى، وطريقة كتابة أخرى، ثم وفي آخر موسمين لمقترح بصري مختلف، صنعه مجموعة من الشبان المبدعين في التصوير والمونتاج والغرافيك مثل رامي الحسين ورواد سعيد وغدير عبد الله وربيعة علي وسيف الدين دقوري، وفي مقدمتهم بالطبع موفق عماد الدين".
هل يمكن اعتبار بودكاست "بيناتنا" وثيقة شفوية ذاتية عن واقع الحرب، أم استعادة لرؤية تحاول شرح ما وصلنا إليه في سوريا؟ عن هذا السؤال يجيب العيسى بروحية الأديب: "يسيطر عليّ وهم يَنْظم كل ما أفعل. وهو أني مؤتمن على حكايات هذه البلاد، وأنّ أصدقائي حين هاجروا تركوني ناطوراً على الكرم العتيق. ومن شروط صون الأمانة بالنسبة إليّ أن أتفقد أشجار الكرم كل يوم، وأخبر العالم عن كل شجرة يبست، وعن كل نسغ حياة ما زال ينبض في جذع".
ويُرجع الفضل في برنامج "بيناتنا" لروح الفنان السوري لؤي كيالي (1934-1978) قائلاً: "بالنسبة إليّ، أعيش الحياة السورية بكامل عريها وقسوتها وحقيقيتها. وأحاول ما استطعت أن أحكي ما أعيشه. بأقل قدرٍ من التزييف. لكن برنامج "بيناتنا" مدين لرجل واحد أكثر من الجميع، كان حاضراً في ذهني في كل حلقة كتبتها. كان حاضراً كتحدٍ وكمعلم. أستاذ كبير تعلمت منه كيف يمسك المرء حزن بلاده بين أصابعه واضحاً محدداً صريحاً صارخاً. وهو الرسام العظيم لؤي كيالي الذي أدركت لوحاته كم من الحزن في هذي البلاد".