إذا كان الشائع أن ينسب إنشاء الأولمبياد الحديثة إلى الفرنسي بيار دي كوبرتان أواخر القرن التاسع عشر، فإن صاحب الفكرة الأصلية كان الشاعر اليوناني باناجيوتيس سوتسوس الذي نشر قصيدة عام 1833 بعنوان "حوار الموتى" على لسان شبح أفلاطون وهو يتحسر على بلاده ويتساءل: "أين ألعابك الأولمبية؟" وبعدها أرسل خطاباً إلى المسؤولين يدعوهم إلى إحياء الأولمبياد في مارس من كل عام.
فماذا لو نظرنا إلى أولمبياد باريس كفضاء درامي وشعري يضم مجموعة متنوعة من المسارح؟ لاعبون ولاعبات يؤدون أدواراً بطولية، تحت أنظار جمهور مفعم بالحماسة يصفق لهم، وملاعب تنس وكرة قدم ويد ومضمار عدو وطاولات تنس وأحواض سباحة، كلها تسعى لاكتشاف أقصى ما تبلغه قوة عضلات الإنسان وصلابته وعظمة موهبته.
فالمعنى الأيقوني المباشر للأولمبياد هو استعراض القوة، تحت شعار: أسرع، أعلى، أقوى. لكن تكمن خلفه معانٍ أكثر أهمية تتعلق بمخ الإنسان وحيله وقدرته على الابتكار وطرح الأفكار، يتجلى ذلك في الآراء والانفعالات والتوجهات السياسية. فنحن لسنا إزاء بطولة صامتة تتمدد فيها الأجساد وتستعرض نفسها، بل تغلف الأداءات البدنية بكل اللغات والرسائل.
المؤسس بيار دي كوبرتان
ألوان من المعاني
حاز التركي يوسف ديكتش ميدالية فضية في الرماية، لكن إنجازه في حد ذاته لم يلفت الأنظار، بل طريقته المسرحية التي أدى بها، وهو يضع يده في جيبه باستخفاف على طريقة جيمس بوند، دون أن يغمض عينيه، أو يستعمل سدادات الأذن ونظارات، مكتفياً بإطلالة هادئة لخمسيني وسيم، كأنه مشهد تمثيلي جذاب أعيد إنتاجه في آلاف الصور والتعليقات المرحة.
المصارع الكوبي الأسطوري ميخاين لوبيز (42 سنة) خطف الأنظار لأنه عاد من الاعتزال تحت إلحاح الجماهير، ونجح في اقتناص الذهبية الخامسة على التوالي بين عامي 2008 و2024، في إنجاز تاريخي غير مسبوق. وفي غمرة النصر التقطته الكاميرات يخلع حذاءه وسط الحلبة، ويضعه جانباً، في إشارة إلى اعتزاله النهائي.
أما الهولندية من أصل إثيوبي سيفان حسن الفائزة بذهبية سباق الماراثون فظهرت على منصة التتويج بالحجاب، برغم أنها لا ترتديه أساساً، ما فتح المجال لتعليقات كثيرة بأنها توجه رسالة تضامن ضد التضييق على المحجبات.
وبرغم أن اللجنة الأولمبية سعت لمشاركة رمزية باسم أفغانستان المعزولة عن العالم تحت حكم طالبان، حيث مثلها رياضيون في المنافي، إلا أن اللجنة نفسها استبعدت الأفغانية مانيزا تالاش، لاعبة "البريك دانس" وعضو الفريق الأولمبي للاجئين بسبب عبارة "حرروا المرأة الأفغانية" بخط أبيض على ظهر قميصها الأزرق. رفضاً للشعارات السياسية برغم أن السماح للاجئين بالمشاركة هو فعل سياسي!
على منصة التتويج لكرة الطاولة للزوجي المختلط، عبرت صورة "سيلفي" بين لاعبين من الجارتين الكوريتين الجنوبية والشمالية عن مغزى سياسي حيث حظيت بانتشار واسع وتعليقات بأنها تمثل الروح الحقيقية للألعاب الأولمبية.
إلى جانب المعاني الدرامية والرسائل السياسية، كان ثمة مشاعر وحالات عاطفية لا تُنسى، مثل فرحة والدة اللاعب المصري أحمد الجندي ونظرة خطيبته له.
وبعد مراسم تسلم الميدالية الذهبية في الريشة الطائرة، باغت شينغ سيوي الجميع على الهواء، وطلب الزواج من شريكته في اللعب هوانغ ياكيونغ، وقدم لها باقة ورد. وهو يقول: "سأحبك إلى الأبد! هل تتزوجينني؟"، لترد ياكيونغ: "نعم سأفعل! يا إلهي!".
بينما احتفل نوفاك ديوكوفيتش بأول ذهبية له في كرة المضرب، بإطلاق صرخة تردد صداها في ملعب رولان غاروس قبل أن يتسلق باكياً مقصورة اللاعبين ليعانق زوجته يلينا وطفليه.
العالم يغني ويرقص
ولأن الفن يؤطر حياتنا بطريقة ما، شهد حفل الافتتاح محاكاة هزلية للوحة ليوناردو دافنشي، وظهوراً نادراً للمغنية الكندية الشهيرة سيلين ديون، التي تتعافى من محنة مرض قاسية، وهو ما كان محط إعجاب الملايين، كما حضر في الختام المغني الأميركي الشهير سنوب دوغ.
واللافت أن علم الأولمبياد الذي سيسلم إلى لوس أنجلوس الأميركية 2028، لم يحمله بطل أولمبي بل عهد بالمهمة إلى نجم هوليوود توم كروز الذي قدم استعارة بصرية من وحي سلسلة "مهمة مستحيلة"، فهبط من أعلى الملعب لأخذ العلم ثم ركب درجة نارية وغادر في اتجاه طائرة تقله إلى بلده.
كما شهد حفل الختام تألق المايسترو زاهية زيواني (44 عاماً) في زي أسود أنيق لتقود الأوركسترا الفرنسية، في رسالة مزدوجة تنتصر للمرأة وللأقليات المهاجرة، لأن زاهية من أصول جزائرية.
ما بين حفلي الافتتاح والختام، خطت باريس خطوات كثيرة للتعبير عن ذاتها كعاصمة للثقافة والفنون، أهمها إدراج مسابقات "البريكنغ" ضمن الأولمبياد للمرة الأولى، باعتبارها تعبيراً أدائياً يمزج بين الرقص والرشاقة الجسدية، ويشجع الشباب على ممارسة الرياضة لاكتساب القوة والمرونة، بمشاركة 16 راقصاً على أربع مجموعات.
تحقق هذه الخطوة أهدافاً عدة، منها الاقتراب أكثر من عوالم الشباب، توسيع الألعاب الرياضية، وتعزيز ثقافة التنوع، والأهم من ذلك ترسيخ الأداءات الفنية وعدم الاكتفاء باستعراض القوة الجسدية فقط.
الشعر بين الحضور والغياب
وراء الأجساد المتنافسة، فنانون في الدعاية ورسم الشعارات وتصميم الأزياء، ومختصون بالجمال، وألعاب الواقع الافتراضي، وصانعو الحلوى الفرنسية، وخبراء الاستجمام.
ويمكن بسهولة ملاحظة اللمسة الفنية على مسرح الأحداث، وفي الكواليس أيضاً. لذلك لا نجافي الحقيقة إذا ما اعتبرنا الأولمبياد بما تضمنته من معان وأفكار ولحظات عاطفية ورسائل وموسيقى وغناء ورقص، هي حدث كوني شاعري بامتياز.
ولا ننسى أن للجنة الأولمبية نشيداً خاصاً بها، ألقي للمرة الأولى في دورة أثينا عام 1896 اقتبس عن أنشودة رياضية إغريقية قديمة، وكتبه الشاعر كوستيس بالاماس: "يا عبقري القدم الأزلي، والد الصحيح والجميل والخير، انزل إلى هذه الأرض وتحت هذه السماء، الشاهدتين على مجدك، أنرنا بشعاعك".
كما فكر البارون الفرنسي كوبرتان بأن يرافق المسابقات الرياضية، إلقاء مقاطع شعرية للتعبير عن كل طاقات الإنسان.
ولعل كوبرتان استلهم تراث الأولمبياد القديمة والذي تضمن حفلات للشعراء أمام جماهير متحمسة، وإلقاء قصائد تتغنى بانتصارات الأبطال المحبوبين، وعدم الفصل بين القوة البدنية والبراعة الأدبية، خصوصاً أن فلاسفة اليونان لم يكونوا يفصلون بين أهمية الرياضة للجسم، وضرورة الشعر والموسيقى للروح.
وفي دورة استوكهولم عام 1912، أدخل المنظمون خمس مسابقات فنية كفعاليات أولمبية رسمية، وكان أول عمل يفوز بميدالية ذهبية أولمبية "قصيدة نثرية للرياضة"، وجاء في مطلعها: "أيتها الرياضة، يا بهجة الآلهة، يا خلاصة الحياة!".
وقبل مئة عام حين نظمت فرنسا أولمبياد باريس عام 1924 استعانت في لجان التحكيم بشعراء وروائيين مثل الشاعر موريس ميترلينك الحائز جائزة نوبل، والشاعر بول فاليري.
وحتى دورة لندن عام 1948، حضرت الفنون وتبارى الشعراء بقصائدهم التي تمجد البطولة والروح الرياضية، وشارك الرسامون بلوحاتهم التي تستلهم جمال الأداء الرياضي ولحظات الانتصار.
لكن تراجع الاهتمام بالشعر، والفنون عامة، فانتقلت من المتن إلى الهامش، تاركة الصدارة لاستعراض الأجساد.