النهار

النهار

"وحش مقدّس" وشمس حارقة: آلان ديلون رحل "بلا أيّ شعور بالندم"
شربل بكاسيني
شربل بكاسيني
المصدر: "النهار العربي"
شمس حارقة، أيقونة سينمائية وباحث عن الكمال، أطفأ آلان ديلون تلك الشمعة التي كتب على هديها فصولاً من مجد ودراما وفضائح، وغادر "زمناً بات يكرهه"، في غزلته الأنيقة، "بلا أيّ شعور بالندم".
"وحش مقدّس" وشمس حارقة: آلان ديلون رحل "بلا أيّ شعور بالندم"
آلان ديلون في فيلم "المغامرون" لروبيرت انريكو (1967).
A+   A-
كما تلتهم النار الحطب الذي يغذّيها وكلّ ما يحيط بها، حتّى لا يتبقّى لها شيء لتحرقه، هكذا عاش آلان ديلون. "شخصية ذاتية التدمير، وباحث دائم عن هويّته"، كما وصفه مخرج "مسيو كلاين" جوزيف لوزي. شمس حارقة، أيقونة سينمائية وباحث عن الكمال، أطفأ ليل السبت الأحد تلك الشمعة التي كتب على هديها فصولاً من مجد ودراما وفضائح، وغادر "زمناً بات يكرهه"، في غزلته الأنيقة، "بلا أيّ شعور بالندم".


كوّة الضوء
فندق "ريجينا" - شارع جان ميرموز، الدائرة الثامنة، باريس 1956.

صبيّة سمراء في الثالثة والعشرين، إيطاليّة من القاهرة، تسكن غرفة باردة متواضعة. يولاندا جيليوتي، احفظوا هذا الاسم جيّداً. محفظتها فارغة من أيّ فلس وفي رأسها تحتشد أحلام الشهرة. تُبادل شابّاً بلغ الواحد والعشرين لتوّه نظرات إعجاب فيها من الخَفَر والحياء ما في عينيه من غرائزيّة أسد جائع لافتراس كلّ فرصة تجعل منه محطّ الأنظار.
 
آلان ديلون في فيلم "الدائرة الحمراء" لجان بيير ميلفيل (1970)
 
 في غرفة صغيرة من الطبقة نفسها داخل الفندق الباريسيّ، نزل الشاب العائد حديثاً من الحرب الهندوصينية الفرنسية. مغمور أوشك أن يُصبح جزّاراً وبائع لحم، يحلم بالنجاح، شأنه شأن الإيطاليّة الآتية من أرض الفراعنة. ستُصبح الصبيّة في ما بعد داليدا، وجار السكن الذي تقاسم وإيّاها الضيقة والأحلام، سيجد دوراً سينمائياً خجولاً، قبل أن يُصبح آلان ديلون، ذلك "الوحش المقدّس" الذي ترك بصمته في السينما الشعبية كما في الأعمال الفنّية التي باتت من الكلاسيكيات.

سيتمسّك ديلون بذلك اللقاء طيلة حياته، ليس لرومنطيقية الذكرى فحسب، بل لأنّه تذكير بالمجد الذي بلغه بعد الضيقة، وبقدرته على إغواء معلّمي السينما. سواء في "موسيو كلاين" أو "روكو"؛ سواء كان "النمر" أو "الساموراي"، بلغ ديلون ما يُشبه الكمال، في قالب كلاسيكيّ مثير، شهم حيناً وإيروتيكيّ أحياناً، وتحوّل علماً فرنسيّاً يصعب تجاهله كما تكراره.

 
شمس حارقة
افتخر ديلون بعدم تلقّيه تدريبات على تقنيات التمثيل، واعتماده على جاذبيته التي مزجت بين الجمال الملفت والبرودة الحادّة. وجد فيه كبار المخرجين الضالّ المنشود، وسرعان ما تحوّل قنبلة سريعة التفجّر في أفلام طبعت عصراً ذهبياً، كما في "الشمس الحارقة" لرينيه كليمنت (1960)، "الساموراي" (1967) و"الدائرة الحمراء" (1970) لجان بيير ميلفيل، "روكو وإخوته" (1960) و"النمر" (1963) للوتشينو فيسكونتي، و"المسبح" لجاك ديري (1969).
 
آلان ديلون مع رومي شنايدر في فيلم "المسبح" لجاك ديري (1969)
 
جسّد ديلون في أفلامه نموذج الرجل الشريف والقوي، الصامت الذي يلفّه الغموض، والوسيم صاحب العينين الزرقاوين والنظرة الثاقبة الذي عليه أن يقاتل وحده الشرور المحتشدة. هذا النموذج "الديلوني" أخرجه من الإطار الفرنسي - الإيطالي نحو هوليوود، حيث ألهم مخرجين كباراً من أمثال كوينتن تارانتينو، مع أنّ التجربة الأميركية لم تعرف النجاح الأوروبي.

على أيّ حال، لا يمكن إنكار سحر ديلون؛ إنّه أمر مفروغ منه. ولكن، على رغم الإعجاب بأدائه والإطراء الذي حصل عليه طوال حياته، والتكريم الذي حظي به في مهرجان كانّ قبل خمس سنوات، إلا أنّ شخصيته كثيراً ما كانت محطّ انتقاد.
 
غلاف اسطوانة "Paroles, Paroles" مع داليدا (1973)
 
كثيرون لاموه على دعم صديقه الزعيم اليميني المتطرّف جان ماري لوبن، ودعمه عقوبة الإعدام، وتمنّيه الموت الرحيم، ومعارضته المثلية الجنسية التي وصفها بأنّها "ضدّ الطبيعة". أبناؤه أطلقوا أخيراً زوبعة اتّهامات ودعاوى قضائية كادت تلوّث مسيرته. كما أنّ التكريم في كانّ (أيار/مايو 2019) أثار انتقاد بعض النسويات.

عاش ديلون في حديقة نساء، وجمعته قصص حب طويلة بأربع نساء رئيسيات، رومي شنايدر، روزالي فان بريمن، ماري دارك وآن باريود. وقبل سنوات، أخرج إلى العلن علاقة غرامية لم يعرف بها أحد، جمعته بداليدا إبّان تسجيل النسخة الفرنسية من أغنية "Paroles, Paroles"، كما ليقول إنّه "زير نساء" بحقّ، لا تفلت منه أيّ حسناء ولا تقاوم قبضته المحكمة.

 
"أكره هذا الزمن"
كبر "الساموراي" وشاخ، ولم يفقد شيئاً من الألق. مرّات ومرّات تصدّر شبّاك التذاكر إلى جانب صديقه جان بول بلموندو. "أنجزت كلّ الأدوار، أو تقريباً كلّها"، كان يقول، "الوحيد الذي لم أُؤدِّ دوره هو المسيح". أسر قلوب كبار المخرجين في فترة "الثلاثين المجيدة"، أمثال رينيه كليمان، لوتشينو فيسكونتي، مايكل أنجلو أنطونيوني، جان بيري ميلفلي، وغيرهم، وصولاً إلى جان لوك غودار. وعلى رغم المسيرة الحافلة، لم يفز سوى بجائزة سيزار واحدة عن فيلم "قصتنا" لبرتراند بلييه (1985)، وحصل على جائزة السعفة الذهبية الفخرية في كانّ تكريماً لمسيرته الفنية (2019).
 
آلان ديلون وصديقه جان بول بلموندو في فيلم "بورسالينو" (1970)
 
 كبر "الساموراي"، وشاخ بالفعل. بقيت جملته الشهيرة "أنا لا أخسر أبداً. أبداً، حقّاً" عالقة في أذهان جمهور السينيفيليّين. رفض أدواراً عدّة أوصلت أصحابها إلى مصاف الأيقونات. "مايكل كورليوني" في "العرّاب" الذي اضطلع به آل باتشينو، واحد منها، وكذلك "مارتان" الذي جسّده إيف مونتان في "المتوحّش". كبر آلان ديلون و"ما عادت الحياة تعطيه أيّ شيء".

"عشتُ كلّ شيء، رأيتُ كل شيء. أكره هذا الزمن"، قال في حوار مع "باري ماتش" قبل ستة سنوات، بمناسبة مرور 60 سنة على بداياته. "كلّ شيء أصبح مزيفاً. لم يعد للاحترام وجود. لا قيمة لغير المال". كبر، وفي أعماقه، ربّما بقي ذلك الفتى ابن الضواحي، الذي وُضع في رعاية أسرة حاضنة بعد انفصال والديه، واتّخذ من فناء سجن فرينس ملعباً، وعلى مسمعه أُطلقت الرصاصات التي أعدمت بيير لافال.

كبر آلان ديلون وشاخ، ورحل مطمئنّاً على أسطورة صقلها بالموهبة وزيّنها بجمال كلاسيكيّ، ولم يخبت بريقها على رغم اتّهامات بالعنصرية ورهاب المثليين وكره النساء. "تقريباً، كلّ الذين أعرفهم ماتوا"، قال قبل سنوات. "أعرف أنّني سأترك هذا العالم بلا أيّ شعور بالندم".