برحيل آلان ديلون (1935 ـ 2024) عن عمر يناهز 88 عاماً، خسرت فرنسا آخر أيقوناتها السينمائية التي تعكس هويتها وخصوصيتها الثقافية قبل أن تجتاح العولمة الكرة الأرضية وتنمطها.
بقدر ما يمثل ديلون وجه فرنسا، والرجولة على الطراز الفرنسي، يمثل أيضاً مفهوم "فتى الشاشة الأول" في عصره الذهبي.
هذا المفهوم المعبر عن صناعة النجومية، وليس الممثل، لأنه ليس بالضرورة أن يكون الممثل العظيم نجم شباك، ومعظم الممثلين الكبار ـ على سبيل المثل ـ ليسوا نجوم شباك وغير معروفين جماهيرياً.
فالممثل ليس مطلوباً منه سوى أن يقدم أفضل تقمص لشخصية ما، أما النجم فعليه ـ بغض النظر عن جودة تمثيله ـ أن يختلق سيرة موازية جذابة للمراهقين، وساحرة للنساء، ليصبح "معبود الجماهير".
وحش صغير وفقير
جانب مهم في صناعة النجم أن يأتي من الهامش أو القاع، ويواصل الصعود كي يفرض نفسه على الطبقة المخملية، وينال سلطة على القلوب لا ينالها أصحاب السلطة أنفسهم.
هذا الصعود في الشهرة والنفوذ يحظى بإعجاب المراهقين ويمنحهم أملاً زائفاً، لذلك نراه موضوعاً أثيراً في أفلام كثيرة، بشكل تراجيدي أو كوميدي. مثلما نراه في سيرة النجم نفسه.
هكذا ولد آلن ديلون طفلاً في بيئة بسيطة في إحدى ضواحي باريس "أوت دو سين"، وعاني انفصال أبويه في الرابعة من عمره، حيث كان والده مدير قاعة سينما وأمه مساعدة في صيدلية.
وفي أجواء الحرب العالمية الثانية اضطرت الأم أن تودعه لدى أسرة أخرى تكفله وترعاه، ما طبع روحه وطفولته بالشعور العميق بالوحدة والمعاناة.
بسبب تلك النشأة المضطربة أصبح طفلاً شقياً متمرداً، يتنقل بين المدارس لسوء سلوكه أو على حد وصفه "كنتُ وحشاً صغيراً بالغ الشراسة".
ألا تشبه تلك الطفولة المضطربة ما عانته مارلين مونرو أو ألفيس بريسلي أو سعاد حسني؟ إنها دينامية أساسية في صناعة النجم الذي يتحدى اليتم والفقر والتشرد وضعف مستواه التعليمي، ليكون صرخة هائلة كامنة في قاع المجتمع يتردد صداها في السماء.
إطلاق الرصاص على الجميع
تنتمي بعض أفلام ديلون إلى سينما "النوار" Noir حيث الاعتماد على الغموض، وطغيان اللون الأسود، والبطل شرطي أو مجرم أو محقق متنكر، أو محتال سيئ الطبع.
تقدم هذه الأفلام محاكاة ساخرة للواقع، أو محاكاة عدمية، لا تؤمن بالقانون ولا قيم الحداثة، بل قانون الغاب، والانتقام إلى ما لا نهاية، وهوس ارتكاب الجرائم بلا أي دافع. إنها لذة إطلاق الرصاص على الجميع بلا استثناء.
هذا أيضاً يعجب المراهقين حيث يرون بطلهم يقف وحده ضد مجتمع مزيف، وقوانين غير عادلة، وسلطة لا ترحم الأكثر ضعفاً. تشبع تلك الدراما بغموضها وعنفها، شيئاً غريزياً خفياً في النفس البشرية، واعتداد الشباب بأنفسهم وقدرتهم على مواجهة العالم والتمرد عليه.
لعل أشهر أفلامه المعبرة عن روح التمرد والانتقام والغضب وأجواء "النوار" هو "الساموراي" 1967، فيلم جريمة نموذجي في العصر الذهبي لتلك النوعية من الأفلام المظلمة المتشائمة، تأليف وإخراج جان بيير ميلفيل. ويحكي عن قاتل محترف يُدعى جيف كوستيللو (آلن ديلون) وشاركته البطولة زوجته ناتالي ديلون.
كرسه الفيلم نجماً عالمياً، وتمت دبلجته في دول عدة، إضافة إلى إصدار نسخة أميركية منه عام 1972 بعنوان "جودسون".
لم يكن الفيلم تعبيراً بصرياً فذاً عن "النوار" فقط، بل صانعاً لمجد وأيقونة آلن ديلون نفسه، فمنذ المشهد الأول يظهر "كوستيللو" مستلقياً في غرفة صغيرة في فندق متواضع، مع التركيز على السيجارة في يده، ولولاها لظن المتفرج أنه ميت.
ساحر النساء
انطلاقاً من تصور تجاري معين، يمثل المراهقون والنساء معظم جمهور السينما العالمية، ويحدث أن تتباين الاستجابة بين الشريحتين عند صناعة النجم. فيكون ثمة نجم يرمز للقوة والعنف والغضب والجريمة وعالم المراهقين، مثل نموذج "الفتوة" الشعبي في أفلام فريد شوقي. وأحياناً يراعى في صناعة النجم الطابع الرومانسي وافتتان الفتيات والنساء به، ولدينا تاريخ طويل في السينما العربية يعتمد على نجومية الوسامة، من أنور وجدي إلى عمر الشريف وأحمد رمزي ورشدي أباظة وحسين فهمي، وصولاً إلى أحمد عز. وفي السينما الأميركية لن نعدم عشرات الأيقونات الساحرة للنساء من كلارك غيبل مروراً بمارلون براندو وجيمس دين، وصولاً إلى توم كروز.
بالنسبة إلى ديلون، تقدم سيرته وأعماله مزيجاً من نجومية الشريحتين، ليصبح أيقونة للقوة من ناحية، وللحب والجنس من ناحية أخرى، وخير تعبير عن ذلك المزيج الفريد هو "وجه ملاك وروح شيطان". وأشهر أفلامه المعبرة عن القناعين معاً "ظهيرة أرجوانية" 1960 إخراج رينيه كليمت.
كان ديلون فتى شاشة نموذجياً بوسامته الولدانية التي لا تعتمد على الشوارب واللحى والعضلات وكل ما يعبر عن رجولة خشنة وفظة، فهو أقرب إلى ملامح الفتى حقاً، أصغر سناً مما هو في الحقيقة.
ويعترف ديلون نفسه بأنه لم يتلق دراسة أكاديمية للسينما، بل دخل المجال بمنطق الهواية، ليس حباً في التمثيل بل كي يعجب النساء وينال استحسانهن.
غراميات معقدة ومرحة
إذا وضعنا السينما الفرنسية في مقارنة مع الأميركية، فهي سينما مثقفة تحتفي بفلسفة الصورة وليس بالحدوتة، وتهتم بتنظير النقاد أكثر من رأي مشتري "التذكرة". وقد جرب ديلون في ستينات القرن الماضي أن ينتمي إلى هوليوود لكنه لم ينسجم معها على الأرجح.
وبينما تميل السينما الأميركية إلى تمجيد العنف وفحص مقولته، تعطي السينما الفرنسية أولوية لمقولة الحب، بكل خفتها الكوميدية وميلودراميتها العاطفية وتعقيداتها العبثية. ويصبح من شروط النجم العاطفي على الشاشة أن تكون له أيضاً غرامياته في الواقع.
وعلى الرغم من تغير مواصفات الدونجوانية، إلا أن ديلون يظل أيقونة مغوية يندر تكرارها، واختير في استفتاءات كثيرة بوصفه "الرجل الأكثر جاذبية في العالم".
ومن أشهر غرامياته، قصته المعقدة مع رومي شنايدر صاحبة أجمل عينين زرقاوين، بمزاجها الأوروبي الذي يتوافق مع ذوقه الفرنسي.
كانت تشترك معه في قدر كبير من البوهيمية والحزن والقلق والوجودي. وبرغم أنه هجرها ـ دون زواج رسمي ـ إلا أن نهايتها المأسوية في ريعان شبابها، ظلت جرحاً مؤرقاً له، فاعتبرها حب حياته الأكبر.
ولم يمنعه ذلك عن علاقة غرامية مع ناتالي ديلون لمدة عامين، قبل أن يتزوجها رسمياً لمدة خمس سنوات، وبعد عزوبية سنوات تزوج رزوالي فان بريمين ثم انفصل عنها عام 2011.
ويصعب تصور سيرة هذا الشاب الفرنسي الوسيم اللاهي، دون رصد غرامياته وزيجاته التي لا تقل إثارة عن أدوار الحب على الشاشة، مجسداً "الدونجوانية" الأوروبية في عصرها الذهبي.
دراما الحياة
مع تقدمه في العمر وابتعاده عن الشاشة منذ عام 2000 تقريباً، أصبح ديلون بطلاً في دراما حياته، لاحقته الأحزان والشائعات، وخلافات أبنائه الثلاثة (آلن فابيان وأنتوني وأنوشكا) على رعايته في شيخوخته الطاعنة، واقتسام ثروته وفرض الوصاية عليه، إضافة إلى صوره وحكاياته مع كلبه "لوبو".
وبعد تعرضه لعملية قلب مفتوح خطرة، وجلطة دماغية عام 2019 ترددت تقارير عن رغبته في "الموت الرحيم" لعدم رغبته في حياة ليس فيها ما يسعده. بعدما انتهت الغراميات، ورحل رفاق العمر، وأظلمت الشاشة، وتوقف تصفيق الجمهور.
لذلك صرح وقتئذ: "أؤمن بأن الشخص يجب أن يرحل في هدوء دون الحاجة إلى المرور بالمستشفيات والحقن والأدوية". وبسبب تردي حالته الصحية، وخلافات الأبناء، خضع في أيامه الأخيرة لحماية قضائية رسمية.
ربما ينظر البعض إلى تجربة ديلون بأنها نموذج للنجومية الصاخبة، أكثر من كونها تنطوي على أفلام عظيمة مؤثرة، لكن هذا التصور غير دقيق، لأن أعماله حققت نجاحاً تجارياً ونقدياً، ونال عنها جوائز وتكريمات مهمة مثل "سيزار" 1985، و"الدب الذهبي" الشرفي من مهرجان برلين، وسعفة ذهبية شرفية من مهرجان "كان" عام 2019، إضافة إلى ترشيح للغولدن غلوب عام 1964.
وبرحيله خسرت فرنسا أيقونة مؤثرة وملهمة، غير قابلة للاختزال، سواء على الصعيد الفني، أو عبر تجربته الإنسانية التي اختبر فيها فصول الزمن الأربعة. ولعل أصدق وصف له ما قالته صديقته أيقونة الإغراء بريجيت باردو، بأنه "نسر برأسين… الأفضل والأسوأ".