في روايته "ما حدث في بيت الكفراوي" (منشورات إيبيدي، 2024)، يعود محمد يوسف الغرباوي خطوة إلى وراء على الصعيد الموضوعاتي من خلال توظيف المشهديات الكلاسيكيّة القائمة على اللغز/ الحب/ البوليسيّة ومزجعها بواقع مصر وتاريخها السياسي من خلال التدرج الحكائي، بدءاً بيوسف الكفراوي الجدّ وصولاً إلى مقتل طاهر الكفراوي وما تلاه من ثورتين مصريتين أطاحتا نظامي حكم متناقضين.
وهذا ما يجعل النّص الروائي قائماً على الواقع المعيش من جهة، والنوستالجيا لنصوص سينمائيّة مصريّة تذكرنا بعالم الجرائم و"رومنسيات" الثمانينات والنقد السياسي.
المشهد الروائي ودوره في النّص
لجأ الغرباوي إلى تقنيّة المشهد لسرد الأحداث وجعل الشخصيّات متموضعة تعبّر عن نفسها من خلال رؤية الكاتب إليها، فالحدث والواقع وما يربطهما بالزمن كان هو المبنى الرئيس الذي قامت عليه الرواية، خاصّة أنّ مطلعها بدأ بجريمة أي بصدمة.
وبهذا فإنها تستقطب المتلقّي لمحاولة فهم المحيط والتفكير من جهة، والتوقع تحت سقف التشويق والإثارة من جهة أخرى.
عبر سرده، تمكن الكاتب من أن يجعل المشهد يصل مفصّلاً، والحقّ أنّ المشهد الذي هو الفكرة الأساسية والأكثر تحريضاً على التخيّل والتصوّر، كُتب بلغة مباشرة واضحة بعيدة من الترميز، ما سهّل على القارئ التفاعل مع الحدث والتعرّف إلى آل الكفراوي.
وبالمناسبة هذه العائلة تتقاطع الى حد مع آل بارودي في عصاميّة أفرادها كما عرفناهم في رواية "بيروت مدينة العالم" لربيع جابر، وفي عنادهم وإرادتهم يشبهون آل الناجي في رواية "الحرافيش" لنجيب محفوظ.
لعلّ هذا التناص التقني الروائي يشير إلى قدرة الكاتب على جعل المشهد بكليّته المبنيّة على الشخصيّات والوصف واللغة عنصراً جاذباً للقارئ ومحرّضاً على خلق عمليّة تلقي إيجابيّة تجعل من الرواية نصاً غايته المتعة والتسلية، ومنبراً لعرض الواقع بصيغة معرفيّة حكائيّة. هذا تجلّى مع الجدّ يوسف الكفراوي وزمن الخديوي مروراً بمرحلة عمر الكفراوي وحكم الرئيسين جمال عبد الناصر وأنور السادات، وصولاً إلى حكم الرئيس حسني مبارك عند مقتل طاهر الكفراوي.
المشهد الذي تحرّر من الحواريّات الدراميّة الكثيفة كان التقنيّة الأنسب لهذا النّص، كونه وازن ما بين العاطفة التي جمعت شادي نجيب، الضابط القبطي، وسهام المرصفي الصحافيّة المسلمة التي كانت عشيقة طاهر كفراوي، والمعرفة التي تجلّت في حركيّة التاريخ السياسي وتبدل الواقع المصري.
النوستالجيا السينمائيّة
على الصعيد الموضوعاتي يعيدنا الغرباوي إلى أفلام كرم مطاوع القائمة على الألغاز والأفلام المصريّة التي تدور حول الجريمة والغاية منها.
ومع أنّ سبب مقتل عمر الكفراوي وابنه طاهر لم يكن صادماً بقدر ما كان غير متوقّع، لم يستطع الكاتب أن يثير الشكوك حول الشخصيّات ونظراتها الانتقاميّة، وهو ما جعله يتخبّط ويلجأ إلى تأخير النهاية عبر سرديّات مرتبطة بعائلة أسّست نفسها بنفسها وتوارثت النعيم بعد العناء.
إلّا أنّ هذا المبنى الحكائي - كما أسلفنا حول التاريخ السياسي لمصر - أتى محفوفاً بحقبات حسّاسة ومصيريّة عاشتها مصر في وجهها الملكيّ والجمهوريّ، وسمحت للكاتب بأن يكشف عبر القصّ عن رؤيته إلى الوطن وإلى الحكّام بعيداً من الخطاب المباشر مستعيناً بالشخصيّات وسلوكيّاتها.
كشف محمد يوسف الغرباوي عن الجرائم غير المكتملة وأصلها، فضلاً عن ارتباطها بالمنحى العائلي الذي عرضه ليصل إلى مرحلة الثورتين المتتالتين في مصر، متغاضياً عن التطرق لما يحدث في مصر الآن، فهل نحن أمام أفق جديد يؤسس لرواية قد تكتبها أقلام أخرى؟ أم أنّ الكاتب احترم نهاية الشخصيات التراجيديّة وحدّها الزمني؟
أعادت رواية "ما حدث في بيت الكفراوي" القارئ إلى النصوص التي تتطلب العقل والعاطفة في آن كي يصبح القارئ شريكاً في صناعة الهيكليّة النّصية ولتطرح سؤالاً: هل الواقع يعيد نفسه أزلياً أم أنّ البشر لم يقترفوا بعد أفعالاً أشكاليّة جديدة؟