يقف النقد الأدبي والإعلام الثقافي عند ازدهار فنّ الرواية في العالم العربي وتجدّدها وتنوّع تجاربها في العالم العربي، مشرقِه بالذات، ويغفَل أحياناً إلى حصيلة المدوّنة السردية في المغرب العربي، من ليبيا إلى موريتانيا، بينهما تونس والجزائر والمغرب.
وإنك ما زلت تجد نقاداً ودارسين بعينهم يؤرخون للأدب العربي الحديث والمعاصر، واضعين هذا العنوان الكبير، الفضفاض، فتحسَب قصدَهم الشمول، وإذ تطّلع على فهرسه تخيب، تجده للمشرق حصراً، بل وقسم منه، فقط. أكثر من الإجحاف هي خيانةٌ علمية وبؤسٌ وفقرُ اطلاع. يزيد فداحةً حين يتمّ تجاهلُ الدراسات المكتوبة عن هذا الأدب مع أنها تُغني قراءةً وخيالَ أمة.
هنا نسلط الضوء على جزء من هذا الإبداع، أخص المنتَج في المغرب، أولاً، لاطلاعي عليه أكثر، وصلتي المباشرة به، علماً بأن كثيراً من شروط نشأته وتطوره الموضوعية وخصائصه الفنية تصدق على الآداب المجاورة له مع تفاوت نسبيٍّ، بطبيعة الحال.
بدايات الرواية المغربية
تشترك الأجناس الأدبية الحديثة في بلدان المغرب العربي غالباً في تقارب النشأة ابتداءً من منتصف الأربعينات وصُعُداً، وإرهاصات القصة الحديثة بعد ذلك. وهنا أرجئ ولادة أول رواية مغربية حديثة يجوز التأريخ بها إلى "دفنا الماضي" (1969) ثم "لمعلم علي" (1971) لعبد الكريم غلاب (1919ـ2017) تلتها بتقطّع رواياتٌ نُدرجها في خط التأسيس الناضج والباني بجد لفن الرواية في الأدب المغربي، هي "الطيبون" (1972) و"الريح الشتوية" (1977) لمبارك ربيع (1935ـ)؛ "الغربة" (1971) لعبد الله العروي (1933ـ) "المرأة والوردة" (1972) لمحمد زفزاف (1943ـ 2001).
في السبعينات والثمانينات، واصل هؤلاء إصداراتهم والتحق بهم روائيون يحيد سردُهم عن الخطة الواقعية، أخص بالذكر منهم محمد عز الدين التازي (1949ـ) في "رحيل البحر" والميلودي شغموم (1947ـ ) في "الضلع والجزيرة" (1980).
بالمعنى الفني الصحيح، لا يتعدى تاريخ الرواية العربية في أدب المغاربة نصفَ قرن، وهي فترةٌ وجيزةٌ حقاً أُنجز فيها التأسيسُ وتطويعُ الجنس الأدبي بالتقليد أساساً ثمّ الانتقال إلى الترسيخ وقد شُحذت الأدوات ونضجت المواهب واختمرت التجارب، وتعددت الرؤى وخُطط السرد.
هذا جلُّه بتواز وتفاعل مع المنجز الروائي في المشرق العربي "المحفوظي"، بما يتلاءم ونزعةً مختلفةً تمزج بين الواقعي والذاتي، ثم إلى احتواء رؤية منبثقة من التصور والوعي الذاتيين، أساساً. وثالثة أليغورية استعارية وحُلمية، ذاتُ طبيعة تجريبية غلبت سرد عقدي الألفية الثالثة كما هي في سرد التخييل العربي كله عامة. يمكنني التقرير بيقين الكاتب وخبرة الناقد المتابع أن هذه الرواية انتزعت مكانتها اليوم بجدارة في المتن السردي العربي كله، ويُحسب لها ولكتابها موقعٌ ومقامٌ في المنابر ومنصّات التباري.
أصل إلى الفقرة الثانية من هذه المقالة لأبين من خلال نماذج مختارة، ذكرت أنها أمثلة غير حصرية، لترسم بانوراما مصغرة لشواغل هذه الرواية ونزوعات كتابها الذاتية.
روايات 2024
اخترت روايات عامنا 2024 كلّ منها تنحو نهجاً وطريقةَ تخييل ولونَ سرد. هي أكثر من واحدة، فإن قارئ الرواية المغربية للسنوات الأخيرة يجد أنها تعتمد بقوة على المادة التاريخية، مصدراً مباشراً أو إحالات متفرقة، أو شخصيات وأخباراً.
نعم، عندنا رصيد لرواية تاريخية كاملة برز فيها مفكرون ومؤرخون: أحمد التوفيق، وسالم حميش، وسعيد بنسعيد العلوي. واتسعت الاستفادة لتمتح من الماضي أحداثاً ومحكيات وأعلاماً، وانطلاقاً منها تستلهم بطولاتِه وأوقاتَه الحاسمة، إلى حد أنها تشكل ظاهرةً عامةً وتصنع مرآة من خلالها يُرى الواقع، وهو طيّها.
لنقل من بين أسباب، أن الكتاّب فهموا أخيراً بأن الروايةَ جنسٌ أدبيٌّ يلتفت إلى الزمن وهو عمادها وليست فنّ العابر. إن روائياً مثل يوسف فاضل، طاف سنوات على سطح هذا العابر والمتململ حصره في كمٍّ معتبر من الروايات، وأنتبه أخيراً إلى نخاعها الشوكي، التاريخ، في ثلاثية روائية فخمة "ريفوبليكا"(منشورات المتوسط) استرجع فيها أحداث ثورة عبد الكريم الخطابي في شمال المغرب سنة 1926 زمن الاحتلال الإسباني، وامتداداً إلى أحداث متمردة في المنطقة نفسها، منسوجة بحياة شخصيات تعيش حياتها ومغامراتها الخاصة. حاكها بخيوط سردية واقعية واستعارية، فزوَّج الماضي بالحاضر، والخبرَ بالصورة والشعور.
بجوارها رواية "الفسيفسائي" لعيسى ناصري (منشورات مسكلياني) هي أيضاً ثلاثيةٌ في متن واحد مركب، يجتمع فيه زمن الاحتلال الروماني للمغرب ومقاومة السكان الأصليين، موصول بحاضر مرسوم بمسارات فردية وعلامات سياسية وحفريات تاريخية ثقافية بحبكة بوليسية. حازت هذه الرواية الفسيفسائية تقدير القائمة القصيرة لجائزة بوكر الأخيرة.
تنضم رواية "الشجعان"(المركز الثقافي للكتاب) لهشام ناجح حبّةً بلورية في سبحة الرواية التاريخية للمغاربة باستدعاء بطولات فروسية في الماضي وإحلال بطولة المرأة المغيّبة في الصدارة. سيرة شجعان ضمن بنيان وبنيات سلطة وحكام، وسنن تقاليد وثقافة متوارثة بمخيال شعبي ثري. وكأني بناجح يذكّرنا بأن فهم الحاضر يحتاج إلى تذكّر واستيعاء أوضاع المجتمع وهي فكرة عالم الاجتماع المغربي بول باسكون القائلة بأنه يصعب بناء نموذج نظري لفهم المجتمع دون العودة إلى التاريخ، وبالنظر إليه مُركّباً وديناميكياً.
أضفى المؤلف على زمنه الروائي حُللاً لغوية قشيبةً جداً وأثقلها بالحُليّ البلاغية ظنه التناغمُ مع عصر بثمن ترهّل السرد. تلتحق رواية "مجهول الحال" لسعيد بنسعيد العلوي (المركز الثقافي للكتاب) لتستمد بدورها من التاريخ القريب للمغرب حدثاً ساخناً، تمرداً ضد النظام في قلب الأطلس المتوسط، سنة 1973 سيفشل، في سياق تطورات سياسية قاسية في مغرب السبعينات وما تلاها. وإذ ينكأ العلوي جرحاً فهو اعتاد أن يستخدم التاريخ توريةً وإن يشوبها التباس الرؤية، عنده وزملاءه.
النموذج الخامس في عرضنا هو رواية "أكَدالوكس" لتوفيق يوسف (منشورات أكَورا)، يمكن اعتبارها رواية مغربية خالصة، واقعيةً اجتماعيةً نقديةً ومعبرة عن أزمة شخصية من قلب كيان الطبقة الوسطة، كيف تتخبط في عيشها بالمدينة، وتحاول عبثاً أن توفق بين الوظيفة وتبعاتها والنزوة الشخصية، هوية الذات، المرآة المشروخة الكاشفة لعيوب المجتمع.
رواية بسيطةٌ ومركّبة، منسابةٌ في سردها وشائقة، رغم توزعها بين مواضيع شتى وانقلابها إلى همٍّ سيكولوجي، فإن كاتبها يقول لنا ضمناً أنا عثرت على الموضوع الذي تبحث عنه الرواية المغربية، بالأحرى أستعيد خيطه من المؤسس محمد زفزاف في رواياته القصيرة بأبطاله الصغار، المتعبين في الهوامش والمدن الصغيرة، وبسرد وظيفي حاذق وأسلوب يبلّغ لا بلاغي.
النموذج السادس والأخير الذي أراه يكمل البانوراما المطلوبة، أجده في رواية "مدينة الأزل" (2024) لشكيب عبد الحميد. لا تفلت من جاذبية التاريخ، وإن بذخيرته الإنسانية باستعادة قصة حب منسية تنسج علاقة عرقية وثقافية مزدوجة في مجتمع واحد، تقدم عبر سيرة ذاتية للكاتب بصيغة المثاقفة وروح التسامح ومعها السيرة الذاتية الروائية، أو التخييل الذاتي، باصطلاح آخر، وهو نوع يتكاثر في الرواية العربية ويذوَتُها بقوة، حيناً بنباهة وتملّك، وآخر بتخلّق كتابة خواطر بين الشعر والنثر، وفي الجملة رغبة حارة للبوح تبغي الانعتاق من قيود السرد الجدية.
من التنقل بين المقاربة الواقعية واستلهام التاريخ، والوعي بإشكالية الواقع وتذويت التعبير عنه، إلى بحثها عن النموذج الأمثل لعالم روائي خصوصي وذي أبعاد، تقلبت الرواية المغربية في عديد رؤى و"تقنيات"، وتتواصل تمارين وتجريبيات، في مسارات فردية أكثر منها تيارات، قضاياها مصاعب المجتمع، والمظالم، وإشكاليات الهوية، ومطامح التغيير والخلاص، مطلقاً.