عن رؤيته إلى مدينته الأثيرة، الإسكندرية، وتجربته الحياتية والمعيشية، يأتي الكاتب والشاعر والروائي علاء خالد ليفتح أمام القارئ نافذة على مدينة الألق والحب والنشوة والخروقات الإنسانية والمعيشية التي قادته نحو كتابة "متاهة الإسكندرية"، لنتابع حياة سميحة وسناء وحليم وعاصم ومحسن وعطية الأعمى، وحراكهم في الحياة.
تأتي المدينة الكوزموبوليتانية، المسماة عروس المتوسط، لتشتبك مع تجربة الإبداع التي استنتطق المؤلف من خلالها الكثير من أسرار البحر والصخر والشجر والحوانيت والبارات. تعتبر الرواية هنا بمثابة رؤية جديدة لجيل الثمانينات، الشاهد على تفكك المدينة، وغربة مثقفيها، وطغيان آليات القمع والتسلط.
المدينة إذاً تنقلب تماماً وتعصف هذه التحولات بأحلام ناسها وكتّابها، وليست الرواية هنا سوى شهادة زاخرة بالعمق والتورية ومساءلة الوجود والبشر والحكومات.
عن رواية "متاهة الإسكندرية" الصادرة عن دار الشروق، تحدثنا مع مؤلفها علاء خالد، وسألناه عن دوافع كتابة هذا العمل، فأجاب أنّه "أراد من خلاله أن يوثق لحياته في المدينة، وذلك عبر فعل السير، وإعادة رسم خريطة حياته الممتدة داخلها وداخل ذاكرتي. لذا هناك توثيق دقيق لأماكن وأشخاص وأحداث وأبطال كانوا جزءاً من رحلة السير، سواء المادية أو المجازية. وللمرة الأولى وجد نفسه يولي عناية خاصة للجانب التوثيقي، محاولاً رسم إسكندريته الخاصة، ورسم حدودها في الزمان والمكان".
ثم أضاف قائلاً: "الدوافع بدأت مع اهتمامي بالكتابة عن المدينة من خلال كتب وروايات عدة، أصبح هناك تراكم لتفاصيل المدينة وأجوائها، وروحها الكامنة داخل هذه التفاصيل والناس والأماكن. أتصور أن هذا الامتلاء أوجد مدينة بديلة تعيش داخل ذاكرتي وقابلة للكتابة، والممتدة على أزمنة وأمكنة عدة. فالرواية إلى حد ما خريطة زمنية ومكانية لإسكندريتي، بتعبير إدوار الخراط، التي رسمت بها مساري، مسار أفكاري داخل المدينة، وسط حضورها الرمزي والفلسفي في الثقافة، فالرواية بشكل ما رحلة مزدوجة في المكان والزمان، ما بين إسكندرية الواقع، وإسكندرية الذاكرة".
مركزية الإسكندرية
عن مركزية المدينة يقول الكاتب علاء خالد: "الإسكندرية في الرواية، تحولت إلى مدينة مركزية، وليست هامشية، نظراً لحضور الفعل السياسي بها، عبر الحضور الرمزي لمفهوم الجماعة، سواء السياسية أو الفنية المتمثلة في جماعة الحمير، أو جماعة العميان. أصلاً مفهوم الجماعة نوع من الممارسة السياسية، بجانب الممارسة الفنية، وهي أيضاً جزء من مفهوم الحزب المنظم، ولكن بشكل مختلف، وبأدوات مختلفة... هذه الإزاحة التي حدثت في الرواية وانتقال المركزية، ولو مؤقتاً إلى لإسكندرية، خلقت هذه الأشكال الجماعية والفردية من التفاعل في آن، في ما بينهم، وفي ما بين كل منهم على حدة وبين السلطة والعالم. وأعتقد أن هذا الاختيار يعيد تأريخ المدينة، ويضيف مفهوم السلطة/المركزية، التي كانت من قبل حصراً على القاهرة".
ثم يُكمل: "إسكندرية الهامشية كما في العديد من الروايات، أبطالها دائماً لهم علاقة مرتبكة مع السلطة، ولهم قراءة أحادية/ شعرية لآنفسهم. ولكن في "متاهة الإسكندرية" هناك إزاحة لهذه القراءة القديمة، وأصبح أبطال العمل يواجهون صراعاً سياسياً وجودياً لتحديد موقعهم داخل الرواية. حضور المركزية/ السلطة أضفى بعداً جدلياً يحدد مصائر الأبطال".
تتميز هذه الرواية بوجود شخصيات مؤثرة تستحق أن نتوقف عندها، ومن بينها عطية. وهذا ما دفعنا إلى سؤال الكاتب عن دلالات العمى في شخصية عطية وتأرجحه ما بين الندية في رحلته وتلاقيه مع الراوي السارد. وعن هذا السؤال أجاب: "ربما دلالات العمى اكتسبت معناها ضمن طريقتين للترميز، أولاهما كونهم (العميان) بمثابة جماعة أخرى مقابل جماعة الحمير أو الجماعة المسيطرة التي يُحكى عنها، وهي جماعة لها قوام وثوابت مشتركة، وطريقة لمواجهة العالم، لذا هي نواة جماعة لها هيكل سياسي، ولكن بدون أيديولوجية محددة، وهو ما حاولت أن يكون في الرواية، هذا التعدد للجماعات، بوصف الإسكندرية مكاناً مركزياً قادراً على أن يولد مشتركات وعلاقات سلطة بين التجمعات ذات المصالح الوجودية المشتركة. الشيء الثاني هو إمكانية تأويل هذه الجماعة بوصفها ليست جماعة عميان ولكن جماعة رائية، على عكس جماعة الحمير الأخرى.
خريطة المدينة
وحين سألناه كيف يرى موقع كتاباته في طور خريطة السرد السكندري أو المصري، أجاب: "أنا واحد من ضمن هذه الخريطة وأي كاتب كتب عنها رواية أو تخييلاً ما سيكون جزءاً من هذه الخريطة، فالخريطة نظام أوسع من الكتابة، ربما أحاول البحث عن كتابة نوعية عن المدينة، ليست متمركزة حول مفهوم الكوزموبوليتانية، بالرغم من وجود تعدد في الأجناس داخلها. وأيضاً أحاول أن أستبعد عنها مفهوم الهامشية، بالرغم من وجود مزاج هامشي لأبنائها. هذه المنطقة المتأرجحة بين الاختيارين هي ما أبحث عنه في الكتابة عامةً، أن يكون لك موقف من التاريخ، ولكن ليس متطابقاً من نظرية سياسية، أو أيديولجية /سياسية، كما أرى في بعض الكتابات التي كتبت عن الإسكندرية، وفسرتها سياسياً فقط".
وأضاف: "يمكن الراوي أن يكون ناتجاً من تربية فنية ونفسية ووجودية تجعله يطل على المدينة من ارتباط وانفصال عنها معاً، ربما هذا الاختيار يسمح بخلق أشخاص لهم كثافة حقيقية، لأن لهم تناقضهم الذاتي، وليسوا نماذج معتادة".
وعما إذا كانت روايته تبشر أو تستبصر المستقبل الكلي للمدينة مأساوياً، علّق قائلاً: "أعتقد أن مصدر الحسية، هو أن كل شخص له تناقضة الخاص بعيداً عن تناقض المدينة وأيدولوجيتها المملاة عليهم، كما يوحي داريل في رباعيته، وأيضاً ربما مصدر الحسية هو الكثافة التي تحملها أي شخصية أو أي تفصيلة في ذاكرتي، أنسنة للأشياء والأفكار والآماكن، أصبح لأي مفردة أو تفصيلة أو فكرة، ثلاثة أبعاد داخل النص. بجانب أن هناك وداعاً ما لإسكندريتي، لذا هناك مشاعر مشحونة تبتعد قليلاً عن الترميز والتجريد وتنحو ناحية التجسيد، باللغة، لحالة الفراق المتوقعة". يُكمل: "بالرغم من أن الماضي هو زمن الأحداث، ولكنها دورة قابلة للتناسخ، أو تناسخ المصائر كما هناك تناسخ للشخصيات. فالمدينة التي أكتب عنها أصبحت مدينة أخرى، وهذه المدينة البديلة هي التي ستنجو، لذا هناك خطوط عديدة أضعها داخل الرواية حول تجسيم لحظة الفراق هذه، سواء الذي حدث أو الذي سيحدث. هذا بجانب أن هناك لمحات خاصة من تاريخ شخصي، لا يخص المدينة ولكن يخص الراوي، فرغبة الاستعادة لهذا التاريخ المنسي يوفر هذه الحسية لأن وراءها مشاعر شديدة الخصوصية بالنسبة إليّ".
من يقرأ "متاهة الإسكندرية"، قد يشعر أنّ الرواية تحمل أيضاً الكثير من الآمال والنوستالجيا، فهل هي رواية سيرة ذاتية؟ وهل تتضمن فعلاً حنيناً إلى ماض يخص الكاتب؟ عن هذا التساؤل يجيب الكاتب: "جزء كبير منها سيرة ذاتية، وأعتقد أنه ليس لها علاقة بالنوستالجيا ولكن بها شيء من هذا الحس الخلاصي الشخصي، الذي يقف وراء الكتابة، فالنهاية لا تمس المدينة، ولكن تمس علاقتي بها، فالإنسان عارض، والمدينة مستمرة".